آخر تحديث :الجمعة-03 مايو 2024-09:17ص

انهيار العملة وظاهرة التبلد الشعبي

الأربعاء - 12 يوليه 2023 - الساعة 04:50 م

فرج العامري
بقلم: فرج العامري
- ارشيف الكاتب


إن من العادة أن تنتفض الشعوب بصورة عارمة عندما يدمر اقتصادها وتضعف عملتها بحيث تصبح عديمة القدرة الشرائية، أما في الواقع اليمني فإن انهيار الاقتصاد وتلاشي قيمة العملة المحلية للأسف يقابل ببرود شعبي إلى حد العجب، مع أن العملة المحلية دقت ناقوس الخطر بانحدارها إلى ما دون الـ 400 ريال محلي مقابل الريال السعودي، وتجاوز الدولار حاجز الـ 1500 ريالاً، هذه الكارثة تقابل باستكانة شعبية وكأنه لا يعنيه أي من هذا، لكن لكل شيء أسبابه، وكما يقولون "إذا عرف السبب بطل العجب". إن الواقع السياسي اليمني محبوك بشكل معقد بحيث يمكن أن نقول عنه إنه ليس له مثيل في جميع بلدان العالم التي تعاني الحروب والاضطرابات. فمن يدعم الحكومة الشرعية هو ذاته من يدعم القوى المتمردة عليها، وهو ذاته من شكل تشكيلات عسكرية خارج نطاق نفوذها تدين له بالولاء ولو بشكل غير مباشر. ويمكن لنا أن نشخص أهم أسباب هذا الموقف الشعبي السلبي والمتخاذل أمام التلاعب باقتصاده والانهيار الحاد لعملته، أولاً وبصورة أساسية ذات جذور سابقة ومستدامة إلى تفشي الجهل بين أوساط الشعب، وأقصد بالجهل قلة الوعي الجمعي الوطني الذي يقدس المصلحة العليا ويدرك أهميتها، وهذا الجهل ينتشر -للأسف- حتى في أوساط نسبة لا بأس بها من الشريحة المتعلمة التي تظن أن العلم يعني مجرد معرفة القراءة والكتابة مع تخزين قدر لا بأس به من المعلومات في مجال التخصص وغيرها من المجالات، وهذا ما يجعل من المتعلمين أنصاف مثقفين، الأمر الذي يشكل خطورة لا تقل عن خطورة الشريحة الجاهلة، وكذلك من الأسباب التي تجعل الشعب غير مبالٍ بما يجري ضده من انتكاسات اقتصادية توسع ظاهرة الخوف من سلطات الأمر الواقع بحيت لا يجرؤون على النبس بأبسط مطالبهم المشروعة خشية مقابلة ذلك بالقمع العنيف من قبل تشكيلات غير دستورية لا يعنيها سوى تسلطها على مقاليد الأمور، أما السبب الثالث وهو سبب مرتبط بصورة خاصة بالواقع اليمني فنذكر منه كجانب تمهيدي عدم اعتماد كمية كبيرة من المواطنين على العملة المحلية، ومن هذه الكمية الكبيرة من يعتمدون على مغتربيهم خارج الوطن خصوصاً في المملكة العربية السعودية بحيث صار تدهور العملة المحلية إلى هذا الحد وكأنه لا يعنيهم، ونتطرق بعدها إلى التشكيلات العسكرية التي كونها التحالف بدولتيه السعودية والإمارات خارج نطاق وزارة الدفاع ولاءً وتمويلاً مع توفير الدعم لها بصورة كبيرة، ودفع رواتب المنتمين إليها بالريال السعودي، وهذه التشكيلات تتمثل بقوات المجلس الانتقالي وقوات طارق عفاش بالإضافة إلى ألويات العمالقة، مما أجبر الكثير من أبناء الشعب إلى الالتحاق بها، ليس بالضرورة عن قناعة سابقة مرسخة بالولاء بقدر ما هو إجبار من وطأة الظروف المعيشية الخانقة التي يمر بها الشعب، فصار المواطن يرتمي في أقرب حضن يمكن أن يدفع له أكثر، ومن هنا فبعدما ظهرت تلك التشكيلات العسكرية التي شكلت خارج الدستور والقانون ودون انتماءات وطنية حقيقية أقبل عليها المواطنون -خصوصاً الشباب- إقبالاً كبيراً يعكس مدى تعطشهم إلى أي فكرة تخفف عنهم عناء التردي الاقتصادي الخانق ويساعدهم على كسب لقمتهم ومن يعيلون، وفي هذا السبب نجد أن هناك سبباً آخراً يعاضده، ألا وهو الفقر المدقع الذي آلت إليه الأسر اليمنية، فوجدت من التحاق أبنائها بتلك التشكيلات أمراً لابد منه من أجل البقاء على قيد الحياة، ومن هنا ندرك أن المنتمين إلى تلك التشكيلات المدعومة خارجيا وبالعملة السعودية الصعبة تشكل أعدادهم نسبة كبيرة إلى الحد الذي يجعل من التحالف مسيطراً عبرهم على أكبر قدر يمكن التحكم به من حركة الشارع، فلا يعطون هؤلاء المُسَعوَدين أي أهمية لتدهور العملة وإصابتها بالتضخم المفرط إلى حد ضعف قدرتها الشرائية بشكل كبير، فهم على كل حال يستلمون رواتبهم بالعملة السعودي،ولأن النار لا تكوي سوى يد لامسها،  فهم لا يشعرون بأي خطر من انهيار عملتهم الوطنية لأنهم مُخدّرون بعملة مستقرة غيرها، وأسوأ من ذلك تجد الغالبية الساحقة منهم -على العكس-  يشعرون بسعادة واضحة عندما تتردى قيمة العملة الوطنية أمام نظيرتها الصعبة، ظانّين أنهم سيصرفونها بالعملة المحلية بمبلغ أكبر، جاهلين أو متجاهلين أن انهيار العملة بشكلٍ حاد يقابله غلاء الأسعار بشكل فاحش،  فتبقي القدرة الشرائية لما لديهم من مبالغ مادية هي ذاتها، مع التركيز على أن هناك جانب سلبي فضيع يتمثل بكارثة انهيار العملة وموتها البطيء، ووقع ذلك خصوصاً على شريحة كبيرة من المواطنين الذين يعتمدون عليها، كالمعلمين والذين يعدون بأكثر من 200 ألف معلم بالإضافة إلى موظفي الدولة في المؤسسات الحكومية المتنوعة داخل الوطن، وكذلك المواطنين الكادحين في المهن المختلفة خصوصاً العاملين بالأجر اليومي، والمزارعين الذين لا تصل أي من العملة الصعبة إلى أياديهم، وإن ارتفعت لهولاء نسبة المبالغ بالعملة المحلية إلا أنها لا ترتقي إلى درجة الغلاء ومدى انهيار العملة، حيث إن هناك فارق صرف يذهب إلى جيوب السماسرة الذين يقتاتون على أوجاع ومعاناة المواطنين ، ونشير إلى أن كل المنتمين إلى هذه الشرائح المذكورة آنفاً تلفاهم يجمعون بين الخوف من التحرك للمطالبة بحقوقهم من جهة، والعجز عن توحيد الصف على كلمة موحدة يغلب عليها المصلحة العليا للوطن والمواطن، وهو ما يعني في نهاية المطاف اكتفاءهم بالتفرج إلى قيمة رواتبهم على بخستها تتلاشى دون أي قدرة على وقف ذلك. إذن فالقوى الخشنة المتمثلة بالتشكيلات العسكرية الموالية للتحالف بالإضافة إلى الموظفين الكبار في مؤسسات الدولة في مؤسساتها الرئاسية والحكومية والبرلمانية، وكذلك قادات الأحزاب المهترئة وكبار السياسين المهرجين والإعلاميين المأجورين عديمي المبادئ وميّتي الضمائر، كل هولاء مادام أنهم يستلمون رواتبهم ومكافآتهم بالعملة الصعبة من دولار وريال سعودي والتي صارت واقعياً عملاتهم الرسمية، فلن يحركوا حجرة من مكانها لشعورهم أنهم قد أمّنوا مستقبلهم بشكلٍ يبدو أنه لن يصدر منه أي تهديد.

وإلى جانب تحمل الشعب النتيجة الكارثية لكل هذا فهو يتحمل أيضاً مسؤولية كبرى بوصفه صاحب الشأن والمعني الأول الذي يهمه الأمر، علينا أن نسلط الأضواء على سياسة التحالف الممنهجة في تدمير الاقتصاد الوطني عن سبق ترصد وإصرار، حيث إن أدواتهم في الفترة الأخيرة والتي صنعوها بأيديهم وعلى مقاسات مصالحهم الأحادية الظالمة، صارت مستحوذةً على كل مقاليد السياسة في مؤسسات الرئاسة والحكومة والبرلمان، عملوا على تجميد دماء الاقتصاد عبر تعطيل حركة الموانئ والمطارات وإعاقة عمليات التصدير للنفط والغاز والمنتجات الزراعية والنقدية المحلية حتى أصيب بالشلل، ثم بادروا بغية - امتصاص أي غضب شعبي- بإطلاق وعودٍ جوفاء لا يعيرون في الواضح أي أهمية لتنفيذها؛ فليس هناك من يحاسبهم على ذلك، في المرة الأولى قبيل سنتين اشترطوا لتقديم المنحة الموعودة إقالة محافظ شبوة السابق  بن عديو على نزاهته، فكان الأمر لهم كما أرادوا حيث أصدر الرئيس هادي قرار إقالته كما أقال قبله الكثير من الشخصيات الوطنية مثل بن دغر والميسري والجبواني ورمزي محروس، والتي كانت تدافع عن الثوابت الوطنية ومن ضمنها استقرار العملة واستقلال الاقتصاد، ليتبع ذلك سقوط نائب الرئيس علي محسن، ثم سقوط الرئيس هادي ذاته بكل ما كان يحمله من تجسيد للقضية الوطنية في ظل الظروف الراهنة، وهكذا أُجبِرَ الديك -الذي قَبِلَ في بداية الأمر على ترك الأذان- أخيراً على أن يبيض وإلا أن يموت ذبحاً، فصار يردد -بينما هو يُذبَح- "ياليتني دافعت عن مبدئي ومُتُّ وأنا أؤذن"، وقد أُكٓل الثور الأحمر حقيقةً عندما أُكِل الثور الأبيض، والآن ها قد ذُبِحَت الديكة وأكلت كل الأثوار، وتم التخلص من كل الذرائع الواهية التي كان تُبرر بها دعاوي ضعف الاقتصاد وانتشار الفساد... إلخ، هاهي قد تغيرت الدولة وصارت بأيدي المخلّصين، ولكن للأسف بانت حقيقتهم منذ بداية الحكاية بأنهم ليسوا سوى نعاجٍ منبطحة تأتمر حرفياً بما يوجهها راعيها التحالف، وتتسابق من أجل سعادته وإرضائه على حساب سعادة الشعب الذي داهمه البؤس وحاصره الحرمان.

إن بقاء رئيس حكومة بأخلاق معين عبدالملك طيلة هذه الفترة لهو استخفاف كبير بهذا الشعب الذي صار متبلداً ذهنياً، رئيس حكومة كانت من أقواله المضحكة عندما عيّنه السفير السعودي آل جابر : "إن الفساد في زمن الحرب خيانة" من يُوَصّل إلى هذا الخائن رسالةً مفادُها أولاً أن الفساد في كل الأزمنة والأمكنة بشكلٍ عام خيانة، وثانياً أنه لم يحدث في التاريخ فساد لرئيس حكومة في بلدٍ يعاني الحروب والأوضاع المعيشية البالغة الصعوبة كما هو فساده الحاصل حالياً والمستمر منذ وصوله إلى رئاسة الحكومة، فسادٌ ينخر في عظم الشعب ويزكم من نتانته الأنوف، مع ادعائه أنه لن يتدخل بالسياسة بل سيفرغ كل جهده على الاقتصاد، وياليت لو أنه لم يفرغ أيًّا من جهده عليه، أو على الأقل فرغ جهداً بسيطا لكان الاقتصاد أفضل نسبياً مما هو عليه الآن، حيث إن تفرغه للاقتصاد لم يُفسَّر على أرض الواقع إلا بالتهامه له والوصول إلى الثراء السريع من خلاله.

بقي لنا أن نركز على المجلس الرئاسي وعلى الرئيس العليمي الذي جعل منه البعض ساعة وصوله إلى سدة الحكم المهدي المنتظر، منقذ الإنسان والأوطان ومخلّص آخر الزمان، نقول له يا فخامة الرئيس رشاد العليمي: لك ما يقارب من سنة ونصف على الكرسي ولم تفعل مع بقية نوابك أي أنجاز يذكر لهذا المواطن كما كان يرجو منك ويأمل، بل زادت الأمور سوءاً والطين بلة، وانحدر كل شيء بعدكم من قاع الصفر إلى مهاوي السالب، وقد تحملتم المسؤولية وأنتم الآن مسؤولون عن كل شاردة وواردة، فإما أن تقوموا بها بالأمر كما ينبغي أو فتصرفوا بما يرضي ضمائركم ويبرء ذمتكم أمام الله وشعبكم، فالمواطن على استكانته قد ذاق الأمرين وهو منتظر منكم بشرى الفرج  كي يحيا في أمن واستقرار وسلام.. بقي رسالة أخيرة أود أن أوضح فيها جواباً لأحدهم سألني "والشعب ماذا بيده؟" أقول الشعب بيده كل أموره التي تعنيه وتخصه إن هو استيقظ من سبات الجهل وصحي من غفلة التبلد وخلع عنه ربقة الانتماء للأفكار الضيقة والكنتونات ذات بيع المزاد، وكافح من أجل حقوقه ونافح في سبيلها كما فعلت معظم شعوب العالم، إن هو فعل كذلك امتلك أموره كافةً وعاش كريما معززا لا يجرؤ أحد على مجرد التفكير بالانتقاص من قيمته أو تهديد أيٍ من مصالحه، باعتباره شعباً يقظًا حيّاً، لكنه للأسف مدركٌ في ذهنٓ هاربٍ متبلّد، ونائمٌ غير يقظ، وميّتٌ ليس بحيّ؛ لأنه "لو كان حياً ما استخفَّ بهِ .. فردٌ ولا عاث فيه الظالمُ النهمُ"