آخر تحديث :الجمعة-29 مارس 2024-05:58ص

زيارتي للشيخ طارق جميل والاطلاع على مشروعه الإصلاحي

الأحد - 04 يونيو 2023 - الساعة 10:23 ص

ناصر الوليدي
بقلم: ناصر الوليدي
- ارشيف الكاتب


من هو الشيخ طارق جميل ؟*

درة تاج القارة الهندية ونورها وهلالها إنه الشيخ طارق جميل بن (الله بخش) بن عناية الله .
ولد في شهر أكتوبر عام ١٩٥٣م في قرية تلمبة إحدى قرى مديرية خانيوال في إقليم البنجاب.
ينتمي الشيخ إلى قبيلة (سهو)، وكانت قبيلة سهو قبيلة هندوسية من أبناء (بهرتوي راج) أحد كبار زعماء الهندوس في زمانه. هاجرت قبيلة (سهو) بعد انهزامها من المجاهد البطل شهاب الدين الغوري إلى تلمبة في عهد (شيرشاه سوري) أحد ملوك الهند، ثم أسلمت هذا القبيلة على يد الشيخ المصلح الكبير المجدد للدعوة الإسلامية في الهند بهاء الدين زكريا رحمه الله تعالى.

*النشأة*

نشأ الشيخ في أسرة غنية تملك المال والعقار مع الرخاء والنخوة والأنفة، قضى طفولته في قريته حتى أكمل مرحلة المدرسة الابتدائية الحكومية، ثم أرسله أبوه للدراسة الثانوية في مدينة لاهور في مدرسة (سنتر اسكول) أرقى المدارس في أقليم البنجاب، فلما أكمل الثانوية التحق بعدها مباشرة بكلية الطب بلاهور، وكان يقيم في السكن الجامعي، وكان في ذلك الوقت تعد مشاهدة السينما وحضور الحفلات الغنائية من علامات التثقف والتطور، فكان هو وأصدقاؤه يواظبون على مشاهدة السينما وحضور الحفلات الغنائية، وكانت له ميول شديدة للفن بسبب جمال صوته الذي سيجعل منه مغنيا كبيرا.
وبينما هو كذلك يدرس في الكلية التقى طالبًا بنغاليًا ينتمي إلى جماعة التبليغ، فكان يدعو الشيخ إلى الاهتمام بالصلاة، فغضب منه الشيخ وأساء معه التصرف، فلما انصرف الطالب ندم الشيخ على ما كان منه؛ وذلك بسبب حسن خلق زميله البنغالي، فالتقاه مرة أخرى واعتذر منه، فاستغل الطالب ذلك فدعاه للخروج مع الجماعة ثلاثة أيام وهي أول لحظات التقاء الشيخ بجماعة التبليغ، فخرج معهم ثلاثة أيام بغير علم أبيه، ثم حُبّب إليه الخروج، فقرر الخروج أربعة أشهر؛ رغم اعتراض أبيه وجميع عائلته، وفي أثناء تطوافه هذا حدثت حادثة بسيطة كان لها أثر كبير في حياة الشيخ وفي وجهة الدعوة الإسلامية في باكستان.
حيث سأله شيخ كبير عن عمله ودراسته، فأخبره أنه يدرس الطب، فقال له الرجل العجوز: الأطباء كثر في هذا البلد، ومثلك لم يخلق ليكون طبيبًا، بل خلق للدعوة إلى الإسلام، وكانت هذه الكلمة هي نقطة التحول في حياته، فقرر الالتحاق بجامعة رايوند الإسلامية التابعة لجماعة التبليغ، ولكن ذلك وُوْجهَ بمعارضة من أهله جميعًا، وبسبب رفض الوالد فقد اعتذرت جامعة رايوند عن قبوله؛ لأن الجامعة لا تقبل الطالب إلا بموافقة والديه، ولهذا قرر الالتحاق بمدرسة دينية صغيرة في قريته، وهنا قامت قيامة عائلته؛ لأنها تعدّ هؤلاء (المولويين) أناسًا ضعفاء صعاليك.

*السفر إلى الشيخ*

لم تبقَ لي سوى أيام قليلة على العودة إلى بلادي، وكنت قد أكملت مدة خروجي الدعوي، حيث كان آخرها التشكيل إلى كراتشي، وكنت حريصًا أشد الحرص على زيارة الشيخ طارق جميل - درة تاج القارة الهندية- الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وبلغت قدماه معظم دول العالم، وطاف قارات الدنيا، وكانت له زيارة إلى مدينة الحديدة أيام الاجتماع لم يكن لي شرف حضورها، ولهذا طلبت من الإخوة المشرفين أن يتيحوا لي فرصة زيارة الشيخ إلى قريته (رئيس آباد) التابعة لمدينة (تلمبة)، والمسافة بين لاهور وتلمبة تزيد على خمس ساعات. 
انطلقت صباحًا بصحبة أخي حفيظ الله وأخي تابش صاحب السيارة التي ستقلنا إلى هناك، ورجوت أخي تابش أن يخفف سرعة السيارة حتى لا يفوتنا التمتع بجمال الطريق. 
كانت الأجواء خرافية، السماء تتبرقع بالغيوم، وترسل علينا زخات من رذاذها، والطريق مزين بالمزارع والترع والأزهار، كنا ثلاثة وكان كل حديثنا بالعربية، نتبادل الأحاديث وننشد الأشعار العربية، ونتحدث عن الأدب العربي والأدب الأردي، حتى وصلنا إلى حديقة (بوتكى)، وهي حديقة بديعة لبيع الزهور في جانبي الطريق تزيد مسافتها على عدة كيلوهات فأخبرني الإخوة أنها أجمل حدائق بيع الزهور في باكستان، كان منظر الزهور مبهرًا باختلاف أنواعها وتوزع ألوانها وبديع أشكالها.
وما زالت السيارة تهوي في طريقها والشوق إلى لقاء الشيخ يهز قلوبنا والغيوم تظلنا والمزارع تطارد حركتنا حتى وقفنا على مدينة (أوكارا).
وفي مدينة أوكارا نزلنا لصلاة الظهر، وكان في استقبالنا الأخ أويس وهو صديق لرفيقَي سفري، حيث كان طالبًا معهما في بعض المراحل الدراسية، وبعد صلاة الظهر أخذنا بسيارته إلى مطعم في أطراف المدينة يملكه رجل بشتوني، ويعدّ فيه طعامًا يشبه إلى حد كبير طعام العرب، وهناك قدم لنا لحم الغنم والخبز والرز والمقبلات، فأكلنا حتى شبعنا ثم قدم لنا كاسات الشاي الأحمر، وعرفت فيما بعد أنهما نسقا معه في الترتيب لهذه الوجبة ومكانها، التي قد تناسبني؛ لخلوها من الزيوت والفلافل والبهارات التي هي الأساس في وجبات باكستان، ثم أخبروني أن هناك تشابها كبيرًا بين عادات البشتون وعادات اليمنيين، وهذا ما جعل بعض البشتون يزعمون أنهم يعودون إلى أصول يمنية. 
واصلنا مسيرنا حتى أطلّتْ لنا مدينة تلمبة بعد صلاة العصر وقد بدأ الاصفرار يتغشى وجه الشمس الذي يتطلع خجلًا من بين الغيوم، ومن بين هذه الخيوط الصفراء كانت سيارتنا تخترق المدينة حتى وقفت أمام مبنى جامعة (الحسنين) لنترجل هناك، حيث كان في استقبالنا في جامعة الحسنين بتلمبة عدد من المدرسين والطلاب على رأسهم الشيخ وقاص، الذين فرحوا بمقدمنا فرحًا شديدًا؛ وذلك أن رفيقيَّ حفيظ الله وتابش كانا طالبين في جامعة الحسنين ولهم علاقة ودٍّ مع الكثير من المدرسين في الجامعة، وبعضهم أساتذتهم وآخرون زملاؤهم، ضف إلى ذلك وجود ضيف عربي، وللعرب مكانة في قلوب الباكستانيين. 
أنزلونا في ديوان الضيوف، وجلس إلينا الشيخ وقاص والشيخ محسن وعدد قليل من الطلاب أذكر منهم طالبًا من ملتان اسمه عبدالله، وكان كل حديثنا باللغة العربية، فجامعة الحسنين بكل فروعها تهتم اهتمامًا كبيرًا بالعربية، وأحسب أنها هي وجامعة ابن عباس في كراتشي لا تتفوق عليهما جامعة في الاهتمام باللغة العربية، ولقد كانت سعادة الإخوة لا توصف وهم يتبادلون الكلمات والأحاديث والأشعار مع عربي لديه شيء من الإلمام بالأدب العربي، فكانوا يتداعون للجلوس وخاصة الطلاب النوابغ، وأذكر منهم شابًّا نابغة سيكون له شأن مع العربية اسمه (حنظلة)، الذي قرأ قوائم كثيرة من الكتب العربية. 
قطع علينا أذان المغرب الحديث الذي سنواصله ليلًا مع هذه الثلة الطيبة. 
بعد صلاة المغرب كان عليَّ أن ألقي محاضرة قد رُتّب لها من قبل، حضرها المدرسون والطلاب وعدد من أهل الحي، ولكن أهم الحاضرين هو الشيخ طارق جميل الذي صلى صلاة المغرب جالسًا متلفعًا بملحفة، ثم جلس ينصت للحديث العربي عن انتشار الإسلام في الدنيا، وأهمية الدعوة إلى الله، رغم أنه لا يزال يعاني من آثار ذبحة صدرية كادت تودي بحياته. 
لم نستطع لقاء الشيخ والتسليم عليه تلك الليلة حيث غادر المسجد في آخر المحاضرة بسبب مرضه، وقد أخبرني المدرسون أن الشيخ ليس من عادته أن يحضر بيانات الضيوف، إلا أنه تحامل على نفسه؛ إكرامًا للضيف العربي واستطيابًا لسماع لسان عربي قدم من قلب جزيرة العرب. 
أخبرني الإخوة أن الشيخ طلب منهم أن يأخذوني بعد صلاة العشاء مباشرة إلى حي (إيد كه) وتعني بالعربية حي (مصلى العيد) حيث تقع الجامعة القادرية، وهناك وجدنا الطلاب والمدرسين ينتظرونا، وكانت لنا كلمة لا تختلف كثيرًا عن الكلمة السابقة، وكانت أيضًا حفاوة الطلاب والمدرسين لا تقل عن سابقتها، ثم أُخذنا إلى غرفة خاصة وتحادثنا مع بعض المدرسين عن الاهتمام باللغة العربية.

*الشيخ المكتبة*

التف حولنا تلك الليلة الكثير  من المدرسين والطلاب، وكانوا جميعًا يتكلمون العربية بطلاقة وفصاحة، وينشدون الأشعار وكأنهم في بادية نجد أو في خيام هذيل، فجلس معنا في غرفة الاستقبال بعض الأساتذة الذين تتزين بهم المجالس وكان منهم الشيخ (وقاص).
قضيت مع الشيخ وقاص أيامًا في الجامعة فرع (تلمبة)، ثم فرع (إيد كه) ، وفي المزارع والسوق، جلست معه كثيرًا وسهرنا طويلًا، وتنقلنا في أروقة الجامعة وفصولها ومكتبتها، فوجدت بحق أنني لا أقف أمام شاب لا يزيد عمره عن ست وثلاثين سنة، بل أمام مكتبة بشرية متحركة، شاب يعشق العربية حتى الثمالة، ويتكلم بها أفضل من أكثر أبنائها، فهو يحفظ أكثر من ثمانية آلاف بيت من الشعر العربي، ويُدّرس في الجامعة النحو والصرف العربي، وقد درَّس الطلاب المعلقات السبع وديوان المتنبي، وقرأ من الكتب العربية في الأدب العربي والمذكرات والنحو والصرف والتفسير والأصول والفقه ما لا يكاد يصدق، وهو يتعمد قراءة الكتب باللغة العربية ويؤثرها على لغته القومية الأردية، فضلًا عن أنه من أصل بشتوني من مدينة (ديرة إسماعيل خان)، فلغته الأم البشتونية مع إتقانه للغة السريكية والبنجابية، وهو أيضًا حاصل على الإجادة في اللغة الإنجليزية، ويحمل شهادة الماجستير في العلوم الإسلامية.
سألته عن قراءاته العربية فقال: لديَّ مذكرة أسجل فيها الكتب التي قرأتها في العربية، ثم مدَّ يده فأخرج مذكرة كبيرة رأيت فيها قوائم طويلة من العلوم والفنون، فهذه قائمة بالكتب التي قرأها في التفسير: تفسير ابن كثير والكشاف وزبدة التفاسير وتفسير النفسي وأيسر التفاسير. إلخ
وهذه قائمة بما قرأه في الأصول وهي عشرات الكتب، كما علمت أنه يحفظ قاموس (عربي - أردي) يزيد على أربعمائة صفحة، غير ما قرأه في الأدب العربي وأصول التفسير والرسائل المتنوعة، ولقد علمت أيضًا أنه قرأ لأحمد أمين: فيض الخاطر عشرة مجلدات، وفجر الإسلام وضحى الإسلام وظهر الإسلام خلال ثلاثة أشهر فقط، وقرأ كثيرًا من كتب علي الطنطاوي، وقرأ بالعربية للعلامة أبي الحسن الندوي (١٠٨) كتب وهي جميع ما ألفه الشيخ الندوي، وقرأ للعقاد  وغيره.
وقد كونت منه هذه القراءات المتعددة عالمًا متعدد المعارف، شديد الرسوخ، مع الديانة والتواضع والشغف المعرفي، فأفاد الطلاب وانتفع به التلاميذ وشَرُفتْ به الجامعات.
وحين التقيت الشيخ طارق جميل سألني:
من لقيت من المدرسين؟
فقلت: لقيت بعضهم عرضًا ولكني جلست كثيرًا إلى الشيخ وقاص فوجدته مكتبة متحركة، ففرح الشيخ فرحًا شديدًا وأخذ الجوال فاتصل بوقاص وحادثه باللغة الأردية.
وللشيخ وقاص عدة كتب:
ـ كتاب (التاجر المسلم)، وقد طبع منه ألف نسخة نفدت خلال شهر، ثم طبع منه ألفي نسخة نفدت خلال ثلاثة أشهر.
ـ وكتاب (إن من الشعر لحكمة).
ـ وكتاب (إن من البيان لسحرا).

*نسيم الطارق الجميل*

كنت صباح اليوم التالي بصحبة أخي الشيخ وقاص لزيارة مزارع الشيخ والتطواف في بعض أحياء المدينة، وكان جل حديثنا عن أعمال الشيخ ومنهجه الدعوي والإصلاحي وخططه الطموحة في الإصلاح والتغيير. 
فقد جاء الشيخ من وسطٍ عصريّ، فحياته الخاصة في عائلة إقطاعية ثرية ووجيهة كان له أثره في تكوينه الوجداني، ودراسته الأساسية والثانوية وسنوات عدة في كلية الطب كونته تكوينًا عصرانيًا مستنيرًا، ضف إلى ذلك أنه فنان صاحب صوت جميل، ولولا تحوله الدعوي لربما أصبح من أشهر فناني القارة الهندية، وميوله الفنية أكسبته علاقات كثيرة بالفنانين والفنانات والمخرجين والمهتمين بالفن عمومًا، كما أن وجاهة عائلته أكسبتهم علاقات متينة بأهل الحكم والسياسة، ولهذا كان من أهم أسباب رفض عائلته لتوجهه الدعوي هو المكانة الكبيرة التي تتمتع بها العائلة الإقطاعية في إقليم البنجاب، فكان صادمًا لهم أن يكون ولدهم (مولويًا) يأكل في المساجد، ويتنقل فيها كما يفعل المساكين، وهم العائلة التي يعرف لها الساسة منزلتها ومكانتها. 
هذه الظروف العصرانية التي أحاطت بنشأة الشيخ كانت لها آثارها الإيجابية في توجهه الدعوي ومشروعه الإصلاحي، وإذا كان الشافعي قد أصلح بين مدرسة الأثر ومدرسة الرأي، فإن الشيخ قد أصلح بين المدارس الدينية والمدارس العصرية، حتى إنك لتجد أثر ذلك الإصلاح والتأثير في طلابه، ومما أتذكره أنني تعرفت على شاب في رايوند اسمه محمد جاويد إقبال وكان يجلس إليَّ كثيرًا، فوجدت عربيته عالية وثقافته واسعة، فلمست فيه بصمة الشيخ طارق جميل وفهمت أنه من طلاب جامعة الحسنين قبل أن يخبرني.
ومن ذلك أن الشيخ لم يقطع علاقته بالوسط الفني، بل حافظ على صداقاته المتينة معهم، فكان يزورهم ويلقي عليهم المحاضرات، ويعقد لهم لقاءات موسمية، ويتواصل معهم تواصلًا مستمرًّا مما جعل بعضهم يتحولون إلى دعاة إلى الله، ومنهم الفنان الشهير (جنيد جمشيد) الذي مات في حادثة تحطم طائرة مدنية ودفن في كراتشي، وقد زرت قبره وسمعت قصته من رفاق رحلتي، وهذا الفنان أصبح منشدًا كبيرًا لا يكاد يغيب وجهه عن القنوات الفضائية الأردية، وعلى يد هذا الفنان اهتدى الممثل الكوميدي الذي سبق الحديث عنه في قصة خروجنا إلى (ديبالبور)، وليس هؤلاء فحسب بل هناك عدد من المغنيات والفنانات كانت هدايتهن على يد الشيخ طارق جميل، ولا يزال مستمرًا في لقاءاتهم ودعوتهم والتواصل معهم، ومما أعانه على ذلك أنه صاحب كرم حاتمي يقضي حوائجهم ويكرمهم بالهدايا والعطايا، ومما حدثني به بعض الإخوة الباكستانيين أن الشيخ كان مسافرًا في الطائرة بصحبة زوجته، وقبل أن تقلع الطائرة صعدت فنانة مشهورة كانت مسافرة لإحياء حفلة فنية، وكانت لها مفاجأة جميلة أن ترى الشيخ فصرخت بفرح غامر "مولانا الشيخ طارق جميل، أرجو أن تغمري بدعواتك" في كلام طويل يدل على حبها للشيخ وإجلالها وتقديرها له، فلما جلست في مقعدها بحث الشيخ عن شيء يهديه لها إكرامًا وتأليفًا ولأنه في الطائرة لم يجد شيئًا عينيًا مناسبًا فطلب من زوجته أن تخلع (أقراطها) الذهبية ليهديها إليها، ففرحت الفنانة فرحًا شديدًا وكأنها تتبرك بهذه الهدية من مولاها الشيخ، وبهذا الأسلوب المرن والطريقة الدعوية الرحيمة مع المقصرين استطاع الشيخ بفضل الله أن يلحق الكثير منهم بحظيرة الإيمان والدعوة. 
وقد علمت أن بعض المشايخ احتجوا على الشيخ في تواصله مع المغنيات والفنانات وأكثرهن لا يلتزمن الحجاب الشرعي، فقال لهم: سأحتج عليكم بالمذهب الحنفي: ألم يُجوِّز العلماء النظر إلى عورة المرأة للطبيب عند الضرورة؟
قالوا: نعم 
قال: إن الطبيب يريد أن ينقذ المريضة ويبقيها على قيد الحياة، بينما الداعية ينقذ المرأة المبتلاة بالمعصية من نار جهنم، وهو أصلًا لا يحتاج إلى النظر في عورتها.
وللشيخ أيضًا علاقته بالسياسيين التي يستخدمها في الدعوة إلى الله والتقليل من المفاسد وتكثير المصالح الشرعية، فهذا (المولوي) الذي كان أبوه وعمه يتحسسون من توجهه الإسلامي أصبح رقمًا صعبًا في باكستان كلها، حيث يزوره الوزراء والبرلمانيون ورؤساء الأقاليم والساسة وزعماء الأحزاب إلى ديرته في رئيس آباد، ويذهب هو إليهم للنصح والتوجيه والإرشاد، حيث يلقي محاضرات دعوية في مجلس النواب، بل إن رئيس الوزراء الحالي عمران خان استدعاه حينما انتخب في منصبه وطلب منه المشورة والنصح والدعاء، وأخبرني بعضهم أن أحد الوزراء( وزير العدل)  رفض أن يؤدي اليمين الدستورية إلا بحضور الشيخ طارق جميل. 
ما أريد قوله هنا إن نشأة الشيخ العصرانية وعقليته المستنيرة فتحت للدعوة آفاقًا كبيرة في أوساط الساسة والفنانين والأكاديميين وهي تجربة جديرة بالاستفادة منها. 
ومن نباهة الشيخ إدراكه لأهمية الدراسة في المدارس الحكومية التي يسميها الدعاة هناك المدارس العصرانية، فيزهدون فيها ويجنبون الأبناء الدراسة فيها، ولهذا أنشأ الشيخ عددًا من المدارس الأهلية الملتزمة بمعايير المدارس الحكومية؛ ليلتحق بها الكثير من الطلاب والطالبات برسوم زهيدة تصل أحيانًا إلى المجان. 
أما الجامعات الدينية فقد أنشأ الشيخ خمس عشرة جامعة في طول باكستان وعرضها، منها ثمان جامعات للطلاب وست للطالبات، وجامعة في ولاية تكساس بالولايات المتحدة الأمريكية، وأصل هذه الجامعات وأمها هي جامعة الحسنين في مدينة فيصل آباد، وجميع هذه الجامعات تُدَرّس باللغة العربية، ولها اهتمام كبير بالثقافة العربية، وإذا زرتها لن تحتاج فيها إلى مترجم، وقد نهض باللغة العربية في هذه الجامعات شاب تونسي اسمه (رمزي الحبيب) وقد كان لي معه لقاء طويل.
ومعظم نفقات هذه الجامعات من مال الشيخ الخاص، وقد بارك الله له في ماله؛ لما ينفقه في وجوه الخير من التعليم والدعوة والصدقات والإصلاح.
وعلى ذكر هذا فقد خرجت مع الشيخ وقاص وتعمد أن يمر بي في شارع معين، ثم أخبرني أن هذا الشارع كان سابقًا شارعًا للبغايا، وهو حيّ أصوله شيعية أو باطنية، فاجتهد الشيخ على هؤلاء البغايا بالدعوة والإكرام والبذل، وكان يصرف للتائبات راتبًا شهريًا ويعمل لهن الولائم الكبيرة التي تطعمهن من الجوع وتغنيهن من المخمصة، ثم قال لي الشيخ وقاص: أما اليوم فهذا الشارع تقام فيه حلقات التعليم وتجتمع فيه الداعيات، فقد تحول كل من فيه إلى السنة والدعوة، وهناك عدد من العائلات تأتي شهريًا تتسلَّم مخصصاتها من المال والمواد الغذائية من نافذة قريبة من الجامعة. 
اللقاء 
عدنا من المدينة والمزارع إلى الجامعة واسترحنا ثم تجهزنا للقاء الشيخ فاتجهنا إلى ديرته (ديوانه) أنا وأخي حفيظ الله حوالي الساعة الحادية عشر قبل الظهر، وهناك وجدنا عددًا كبيرًا من الزوار ينتظرون خروج الشيخ لاسيما أنه تماثل للشفاء من ذبحة صدرية خطيرة، وكان من الموجودين شيخ كبير يتهادى متكئًا على ولده الشاب، وقد جاء من مدينة ملتان البعيدة لكي يزور الشيخ ويطمئن عليه، وكان جالسًا على الأرض لم يستطع الجلوس على الأرائك، فلما أقبل الشيخ ترك الكل وجلس على الأرض بجانب ذلك العجوز وأخذ يعانقه ويحتضنه ويلاطفه حتى انصرف ثم أقبل علينا وصافحنا، ودعاني للجلوس بجانبه، وأخذ يسألني عن أحوال اليمن وعن الدعوة إلى الله، وما رأيت في باكستان، ثم سألني عن الجامعة والمدرسين، وحدثته عن (الشيخ المكتبة)، ففرح فرحًا شديدًا وطلب مني زيارة بعض الجامعات لاسيما جامعة الحسنين في فيصل آباد. ثم اعتذر لي بانشغالاته ومرضه وطلب لقائي مرة أخرى قبل سفري. 
لم يطل لقائي بالشيخ فقد كان الزوار كثر وكلٌّ يريد حظه من لقاء الشيخ وهو يتحامل على نفسه رغم آثار المرض البادية عليه.

*وغادرنا تلمبة*

ثلاثة أيام قضيتها في رحاب جامعة الحسنين فرع تلمبة لقيت فيها الشيخ طارق جميل وتلاميذه، ولمست عن قرب مناقب الرجل ومنهجه الإصلاحي، وذلك من خلال الاطلاع على أحواله ومشاريعه وعلاقاته وزيارة جامعته وقاعاتها الدراسية ومكتبتها وما حدثني عنه المشايخ، سواء كان الشيخ وقاص أو الشيخ محسن أو حفيظ الله أو بعض الطلاب، وأدركت حقًا أنني إزاء مصلح ديني سيكون له أثره المبارك على الدعوة الإسلامية في شبه القارة الهندية، وقوام مشروعه الدعوي يرتكز على الاهتمام الكبير بالتعليم الديني غير التقليدي، والاهتمام باللغة العربية والنهوض بالدعوة على أساس العلم والتزكية والتضحية وحسن العلاقات مع المجتمع بكل مكوناته، يصاحب كل ذلك الرفق والرحمة وتذويب الحواجز وإشعار الآخر بقيمته الدينية والبشرية، وتبديد هواجس التوتر بين الداعية ومخالفيه من جميع الفئات بما في ذلك القادة والساسة والفرقاء الدينيين والسياسيين، حتى إن الشيخ يقيم علاقات دافئة مع زعماء الأديان والمذاهب غير الإسلامية الهندوس والإسماعيليين وغيرهم مما يتيح لهم فرصة التعرف على الإسلام بصورته الجميلة الصافية التي يقدمها الوحي، وأنت تستمع إلى أحاديث الطلاب والمدرسين عن شيخهم تتجلى لك شخصية الرجل الراسخة في الديانة والعلم والحكمة والعمق وبعد النظر والوعي الكامل بحقيقة المرحلة ومتطلباتها. 
فالرجل صالح في نفسه كثير التعبد والتأله، مقبل على نفسه منشغل بالصلاة والذكر والتزكية والترقي في منازل السائرين، ومما علمته أن الشيخ لا يترك قيام الليل مهما كانت الظروف، بل إنه يصلي عن أبويه الراحلين لكل واحد منهما ثنتي عشرة ركعة، وإذا عجز عن القيام في الليل لأمر قاهر يقضي صلاته عن نفسه وصلاته عن أبويه في وقت الضحى. 
مع الإقبال على العلم، سواء كان إقباله على كتب التفسير والسنن وشروحها مع همة عالية في القراءة والتدبر، ومما أخبرني به الإخوة أن الشيخ قرأ كتاب البداية والنهاية بنسخته العربية أربع مرات، وقرأ كتاب حياة الصحابة ست مرات، وهو كذلك مجاز في الكتب الستة وموطأ مالك، كثير القراءة لدواوين السنة وشروحها. 
ومما حدثني به الشيخ وقاص أنه كان يقرأ عليه من سنن الترمذي حتى بلغ حديث "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء" فرأى عينيه تذرفان فتوقف الشيخ وقاص عن القراءة، ثم قال له الشيخ ما معناه: إنه رغم غناه لا يدّخر من المال إلا مثل أحد المدرسين في الجامعة.
مع ما عنده من المزارع وما يملكه من مصنع للمعدات الزراعية.
غادرت تلمبة متوجهًا إلى فيصل آباد لزيارة جامعة الحسنين هناك ورؤية باعث العربية في باكستان الشيخ رمزي الحبيب التونسي ولقاء المدرسين والطلاب، وخلَّفت ورائي شيخ القارة الهندية ودرة تاجها ونورها وهلالها يعاني آثار الذبحة الصدرية كما يعاني آثار المرض الذي تعانيه أمة الإسلام في المشرق والمغرب، غادرته وهو في تلك المدينة الصغيرة وكأنه يجلس في غرفة عمليات يدير من خلالها مشروعه الإصلاحي الذي تتحرك من خلاله جيوش الدعاة والمعلمين والطلاب، وهناك أكف المساكين والفقراء من جهة وممن لفحتهم نيران الذنوب من جهة أخرى ترتفع إلى السماء تلهج بالدعاء لهذا (القديس) المجاهد المتبتل.