آخر تحديث :السبت-20 أبريل 2024-02:39م

الجميلة عفراء وأبناؤها البلهاء

الأربعاء - 24 مايو 2023 - الساعة 12:00 ص

د. عوض احمد العلقمي
بقلم: د. عوض احمد العلقمي
- ارشيف الكاتب


لم أكن أستطيع فراق جدتي أو أتغيب عن رؤيتها لأكثر من بضعة أسابيع ، مع أنني أقيم في الحاضرة ، غير أن حالنا قد تغيرت ، وعيشنا قد ضاق ، ولم يعد المرتب الشهري يكفي لتوفير القوت الضروري ، فضلا عن تكاليف السفر إذا ماقررت زيارة الجدة صفية ، ومع ذلك ، وبعد جهد جهيد ، استلفت مبلغا من المال وشديت الرحال نحو أفضل جدة وأحكم شيخة لعلي أظفر بشيء من تجاربها ، أو أدرك غيره من حكمها ...
   وصلت إلى منزل جدتي وقت الأصيل ، والشمس تحتضر نحو الغروب ، ارتميت محتضنا جدتي ، أقبل رأسها ويديها ، وأسألها عن حالها ، وهي تبتسم وتقول ماعهدتك تتأخر كثيرا عن زيارة جدتك يابني ، ومع ذلك فأنا أشكرك إذ  منحتني برهة من الزمن أعيش في هدوء وراحة بال بعيدا عن أسئلة فضولك المعرفي والحكوي والقصصي ، بارك الله فيك ياجدتي وأطال في عمرك . أما الليلة فأنا في ظمإ لايطفئه إلا حكاية من حكاياتك الرائدة أو قصة من قصصك الهادفة ، اذهب يابني واستحم لترتاح قليلا من عناء السفر ، وبعد صلاة المغرب سوف أسرد لك قصة معبرة ، لعلك تحكيها لمن يريد أن يتعظ أو يعتبر من أولي الألباب .
   صليت المغرب والعشاء قصرا وجمعا ، ثم أسرعت في إعداد متكئ بالقرب من سرير جدتي ، وإذا بها تنظر إلي وتضحك حتى القهقهة ، عند ذلك سألتها ، ما الذي يضحكك ياجدتي ؟ وإذا بها ترجع البصر نحوي مرة أخرى ، وتقول : ماعهدتك إلا في عجلة من أمرك يابني ، اعذريني ياجدتي فقد مرت بضعة شهور وأنا بعيد عنك وعن سماع حكاياتك الساحرة ، لابأس عليك يابني ، لكن ما الحكاية التي تفضلها كي أسرد لك فصولها هذه الليلة ؟ أريد أسمع أجمل ماتحفظين ياجدتي ؛ حكاية تشغل البال ، وتحاكي الحال ، تستدعي الخيال ، وتنبئ بالمآل . أحسنت يابني ، هيا ادن مني واسمع عني ، كلي آذان صاغية ياجدتي . يُحكى عن جميلة اسمها عفراء ، نشأت في أفضل مكان من شواطئ البحار ، وكانت أجمل من لؤلؤة المحار ، تزوجت بذكر لايشبه الرجال ، ولايعرف كيف يقدس القوم الجمال ، كان أكثر غباء من الحمار في أفكاره ، وأشد همجية منه في تصرفاته ، فضلا عن أنه ذميم الطلعة ، كريه الرائحة ، لكنها صبرت على أذاه ، وتحملت كثيرا جراء هفواته ومواقد لظاه .
   ولماذا لم تطلب الطلاق منه ياجدتي أو تخلعه وتنتهي من جحيمه وشقاه ؟ إن أعراف العرب وتقاليدهم يابني تنتقص من المرأة المطلقة ، وتحملها مآلات الفشل ، وعيوب الطلاق ؛ لذلك فضلت عفراء شقاء ذلك الزواج على القطع واللاتلاق .
لكن أولم تنجب الجميلة عفراء من ذلك المعتوه ياجدتي ؟ بلى أنجبت منه بضعة ذكور ، لكنهم أضحوا أكثر شبها بأبيهم من شبه القرد بأبيه ، ليس من حيث الشكل وحسب بل توارثوا جوهر أبيهم أيضا ، وهنا كان مقتل عفراء الحقيقي إذ لم تجد من ذريتها رجلا رشيدا ، يعوضها شيئا من سنين المعاناة ومرارات الألم الطويل . كيف ياجدتي ، أنا لم أفهم ما تومئي إليه ؟ اسمع يابني ، لقد صبرت عفراء كثيرا على تصرفات زوجها الهمجية ، وأفكاره الغبية ، وسلوكه غير السوية لعل من الأبناء من يعيد إليها شيئا من الأمل ، ويحمي كبرياء خطاها من الزلل ، ويصنع لها شيئا من الأمجاد والطموح المنتظر ، لكنهم طلعوا بلهاء كأبيهم ، لايفهمون شيئا إلا ماكان يفعل أبوهم ، ولايقرأون شيئا من واقع غيرهم ، ولايتأثرون بما يفعل جيرانهم ، فقتلوا الحلم الذي كانت تنتظره الجميلة عفراء ، بل وأدوا ملامح كبريائها ، وشوهوا جمالها ، وخدشوا محاسنها ، ونكسوا رايات شموخها ، فكانت الكارثة وستبقى لزمن غير قصير يابني . بارك الله فيك ياجدتي .