آخر تحديث :الثلاثاء-07 مايو 2024-02:28م

الشاعر الهادي سبيت

الجمعة - 05 مايو 2023 - الساعة 10:10 م

فهمي غانم
بقلم: فهمي غانم
- ارشيف الكاتب


الشاعرُ الكبير الأستاذ عبدالله هادي سبيت هو قرينُ الشعر والأدب تلتقطُ الاذنُ هذا الصوتَ الشعري الهامس القادم من أرض الفن والغناء والجمال المحروسة لحج..شاعرٌ أرّخَ لنفسه ومن خلالها أرّخَ لتاريخِ لحج الحديث بحروفٍ من ذهب ونسجَ على منوالها خيوطاً حريريةً من القول ليسطّرَ اسمه في أروقةِ الشعر والفن كظاهرةٍ جمعتْ نوابغَ الكلم وسرديةَ المعاني وفعّلتْ لحظتها التاريخية لإنتاجِ حالةٍ شعرية وأدبية مستدامة هيمنتْ على المشهد الأدبي في جدليةٍ تماهتْ تماماً وواقع الحال في البلاد اللحجية المليئةِ بكلِّ التفاعلات السياسية والثقافية والأدبية والفنية وهذه كانت إحدى إشتراطات التفوّق التي الزم بها الشاعرُ الكبير عبدالله هادي سبيت نفسه حتى يموضعها في المكانِ اللائق وفي المقدمةِ من شعراء وأدباء المحروسة..
كان شاعرنا الفذ عبدالله هادي سبيت أحدَ تجلّياتِ عصره الملئ بتلك الشحنات الإبداعية ومنعطفاتِ التحوّل التاريخي لنهضةِ لحج في تاريخها الحديث والمعاصر لسنواتٍ مضت فقد  حملتْ أشعارة رائحةَ الفل والكادي والتحدي وجاءتْ مطرزةً بكنوز لحج الثقافية والأدبية والتاريخية فعكستْ أشعاره تلكَ المساحاتِ الخضراء من روابي لحج وأوديتها وخريرِ ماءها المنساب إلى شقوق الأرض ينتجُ خيراً وعطاءً وافراً يغذّي التفاصيل المختبئةَ داخل ذالك الزمان والمكان وإمتداده الجغرافي والبيئي والسكاني المتصل وجدانياً بذالك الأفق الإبداعي الجميل الذي ميّز لحج وحاضرتها الحوطة وجعلَ لها مكاناً تحتَ الشمس وبصمةً في الوجود..
تذكرته مع النسمة وشعره بايطير*
ويده يوم تلمس على ذاك الحرير
وشفته ساري قدّامي
وقلبي للقا ظامي
بعيد عني وهو مني قريب
----------
تكونتْ حاسةُ شاعرنا الهادي سبيت الفنية والأدبية منذُ كان طفلاً إتسم بقدرٍ وافرٍ من الذكاءِ والالمعيةِ وتفتقتْ موهبته على صادحٍ جميل داعبَ اوتارَ  البيان وتلاوين النغم فتخلّقَ منها إبداعٌ أصيل ثري غني أثرى الحياةَ الادبيةَ والفنية فلم تشرد قصائده بعيداً عن النسقِ العام لقواعد البناءِ الهيكلي فحافظَ على القوام الموضوعي والعضوي في أغلب أشعاره لكنّه مالَ كثيراً نحوَ التجديد وخاصةً في الموضوعات وطرحَ أسلوباً تميّزَ بالإبتكار فهو لايريد أن يكون صوتاً يُسمِع نفسه أو صدىً لغيره إنّما يريد أنْ يظهرَ مواهبه التي عكستْ افقه ونظرته نحوَ الشعر والأدب والثقافة عموماً  بمعنى آخر امتلكَ أدواته الفنية التي صاغَ بها مهاراته الإبداعيةَ ومقوماتِ شخصيته المستقلّة  التي أعطته القدرةَ على فهم كيمياء الشعر بإحترافيةٍ عالية وفهم تقني لماهيةِ الشعر ومعطياته المنسجمة مع الحالةِ الإبداعية والذي لفتْ بها الأنظارَ فأعطته تلكَ المساحة الصوتية وذالكَ الحضور البصري والسمعي الذي ميّزه عن شعراءِ عصره إذ وظّفَ الكلمةَ توظيفاً فنياً جميلاً إتسقتْ بيانياً مع غزارةِ المعاني وتدفقات المشاعر ورهافةِ الإحساس  وبفنتازيا حسيّة ومعنوية تعكسُ مناخاتِ الأمكنة والأزمنة والفصول اللحجية بكل أريحيةِ المبدع الجميل وهذا هو سر تفوّقه..
بانجناه من غصنه*
وأبوي من حسنه
يشفي القلب من حزنه
بانجناه..
بانجنى الذهب الابيض
لايدول ولايأرض
عاده لا دول بيّض
----------
لاشكَّ أنَّ الشاعرَ الأديب عبدالله هادي سبيت كانَ من مدرسةِ القمندان وتلميذاً نجيباً فيها إذ أمسكَ بحرفها الشعري وبتراثِ الشاعر الأمير القمندان لكنّه خطَّ لنفسه طريقاً موازياً جعلَ منه علَمٌ يُشار له بالبنان فهو لايميل إلى تنميط شعره على نفس النسق القمنداني فالتأثيرُ موجود ولكن بنفسٍ جديد هو نفس هادي سبيت التي لونّها بلونه الخاص الذي اكتسبه من مطالعاته الخاصه وتجاربه الحياتية التي سبقتْ وترافقتْ وفعله الشعري فسجّلَ موضوعاته مع ذالكِ الصعود الثقافي والأدبي ومستوى الوعي بقضايا الهم الوطني والعربي الذي شغلَ الوعي الجمعي اللحجي..
لم يكن شاعرنا خارج النسق الثوري والوطني الذي عاشته لحج مع شقيقاتها عدن والمحميات فقد صاغَ منظومةَ أشعارٍ ثورية حركتْ موازينَ الإستشعار لدى النّاس وإحساسهم بقضايا الساعة فسطّروا مواقفهم على نحوٍ تمكنوا فيه من نبشِ تلك الملفات المسكوت عنها
ورفضوا أيَّ نوعٍ من الإنهزامية أو الإنسحاب أمامَ جبروت المحتل وأدواته وثقافته..
ياشاكي السلاح* 
شوف البدر لاح
حط يدّك على المدفع 
زمان الذل راح
----------
هكذا كانتْ أشعارُ الشاعر الكبير عبدالله هادي سبيت بمثابة الفتيلِ الذي نفخَ فيه شرارةَ المواجهة وحرّكتْ المياه الراكدة فكان ذالك سبباً لمحاولة اغتياله لاحقاً ودفعَ الثمنَ غالياً إلى أنْ غادرَ لحج نهائياً بهجرةٍ قسرية إلى مدينة تعز بعدَ أنْ أحاطتْ به الخطوبُ فكانَ طبيعياً أن ينحني للعاصفة لكن صوته لم ينحنِ ولم ينكسرْ فهو أشبه بالطائر الجريح الذي يغني من شدة الألم  فكانت تعز محطةً أخرى من محطاتٍ النضال..
بهجرك والقلب بتقطّع ألم*
بهجرك والعين بتبكي بدم
بهجرك من بعد ذا الحب الطويل
بهجرك والدموع من عيني يسيل
----------
أعتقد هذا ملخص لحالة الشاعر فقد هاجر البلاد اللحجية أو بمعنى آخر هُجّرَ عنوة بسبب المضايقات التي حاصرته وأجبرته على الرحيل..قد يقول قائل إنها هجرة عاطفية  ولكنها إسقاط أيضا لحالة إنسانية عاشها الشاعر..  
كان شاعرنا قريباً من أحداثِ عصره بل واحداً من صنّاعها وكان لقربه من الدائرة المحيطة بسلاطينها وأمراءها أثرها في أنْ يصنعَ من شعره وأدبه أداةً حاملةً روحَ التغيير والفعل الإيجابي الوطني في تقاطعاتِ الحياة اليومية لأنّه وضعَ نفسه في قلبِ الحدث وامتطى صهوته وبيده سيفُ الشعر شاهراً به نحو تلك الوجوه الكالحةِ الفاسدة ضد تطلعاتِ أبناء لحج والمنطقة وحراكها السياسي والوطني بقيادةِ أميرها الثائر علي عبد الكريم..
ياظالم ليه الظلم ذا كله*
كم نايم في العالم صحا عقله
ياظالم لابد يوم ماتندم
لاتعلم أنّ الكل بك يعلم
ياظالم
----------
وهناك ملمح مهم في أشعار سبيت أنّه لم يقفْ عاجزاً عن مواجهة الأساليب القديمة في الشعر والادب ولم ينجرْ إلى بعض تلك الأساليب العتيقةِ التي عملتْ على تشظّي الشعر وإنقسامه على نحوٍ يعيده إلى نقطة الصفر فلمْ تجرّه  إلى الخلف وبهذا لم يضعْ شعره في دواليب الماضي والسير في الطريق المعاكس للتطّور  وظلَّ يشدو بأغاني الخير والحبّ والجمال..
من قلبي ومن خاطري باك*
ياذي أنتَ على خاطري دائم
قد ذكركْ لقلبي أذانه
ياحاكم زمانه
من سِبّه وأجله وشأنه
مانساك والله ماأنساك
كيف نساك وأنتَ معي دائم
دايم وسط قلبي أمانة
ربّ العرش للحُسن ولاك
قد حطّك على أهل الهوى حاكم
ياحاكم ووالي زمانه
----------
الأستاذ عبدالله هادي سبيت تفاعلَ مع ذالك الإرثِ الثقافي والعلمي والأدبي والشعري منه خاصة وهضمَ كلَّ معطياته ومنحنياته فقد عاشَ سبيت المناخ الصحي وتنفسه أدباً وشعراً فكان شعره أكثر قدرة على الإمتصاص والتمدّد على كلِّ المستويات وبذالك امتلكَ القدرةَ على التلّبس بطرق وأنماطِ التفكير الحداثي المعاصر فانعكسَ في معانيه ومفرداته التي رسمتْ لوحاتٍ ضوئيةً وألواناً من الفسيفساء الزاخرةِ بالحياة وحركتها المتسارعة فاأكدَّ شاعرنا مواقفه المشرّفة من القضايا العامة والإنسانية والتعاطي معها بروحٍ مقاتلة ثائرة وتنفسه وجدانياً في إطارِ  التوالداتِ الشعورية وتراكيبها المعبّرة في البيئة التي هي أساساً بيئة ملهمة ومعبأة بمفردات الطبيعة وتجلّياتها الساحرة وبتلكَ الروح والنفس الشعري الملهم التي أمكن له أنْ يعكس إحساساً نفسياً شفافاً كاشف..
القمر كم بايذكرني*
جبينك ياحبيبي
والشفق كم بايذكرني 
خدودك ياحبيبي
ياحبيبي كيف بنساها ليالي
كل شئ فيها صفا لي
وأنتَ من عُليا سماك
كنتَ تسقيني هواك
والنجوم تحمي حماك
----------
لقطة عتاب لذيذ وإستبطان لنفسٍ مُلتاعة لكنه عتاب مع وخز الحبيب بكلمات قد تعيده إلى سيرته الأولى..
استطاعَ سبيت أنْ يحافظَ على مستوى التذّوق الراقي والإرتقاء به حتى أصبحَ تياراً متجدداً في موضوعاته وتناولاته وصارَ خطا ً بيانياً صاعداً وشكّل بذالك نقطةَ تحوّل وإنعطاف بالغِ التأثير في أشعار لحج واحد ظواهرها الأدبية وغذا واحداً من تيّارِ النهضة والحداثةِ والألق..فكم أطربنا  شعر الهادي سبيت وتراقصتْ مشاعرنا مع كلماته ونغمه وكم تطّلعنا إلى أنْ تُصافحَ أيدينا ذالك الوهجَ القادم من بلاد الشعرِ والفن والأدب المحروسةِ بإذن الله لحج..
ليه يابوي تدلع وبخل بقربك*
ليه يابوي تتمنع 
على اللي يحبك
ليه يابوي كيف اليوم 
تضحك من بكاه
وأنت ذي كنتَ له
دايم حلا
ليه تضحك لدمعه ليه ياابوي
وأنتَ عينه وسمعه ليه ياابوي
----------
جمعَ الأستاذ عبدالله هادي سبيت شتاتَ الكلمة والمفردة وقرّبَ بينَ حروفها المتباعدة وضخَّ في نسيجها قرآته وثقافته وخبرته فأعادَ تركيبها وترتيبها على نحوٍ تجلّتْ فيه قابلية الشاعر وقدرته على بلوغِ المدى والتحليقِ بكلِّ ثقةٍ في الأجواء فأحدثَ مايمكن أنْ نسميه ثورةً في المشاعر قفزتْ به إلى أنْ يتخطّى الأمكنةَ والأزمنة الحدودية ويُسمع صوته في الآفاق ولهذا نستطيع القولَ جوازاً وبناءً على ماسطّره الشاعر  المجتهد عبدالله هادي سبيت أنَّ حالةً من متلازمة الشعر والادب قد احتوته وحولتّه إلى كتلةٍ ضوئية اذكى نورها في المكان والزمان وكان أشبه بخليةٍ نحل لم تنتجْ إلاّ شهدَ الشعر  وعسله..
لم ينتجْ الأستاذ عبدالله هادي سبيت تماثلاتٍ ونماذجَ شعريةً مجردة أو مفصولة عن الواقع ولم يتمرّد على القافية الشعرية أو يعزلها عن محيطها الشعري لكنّه عمل مفتاحاً لفهم الشعر فالقافيةُ عنده ليست لأزمة موسيقية أو ترنيم لفظي مكرر بل تعبير عن محتوى فكري وثقافي وإحساس ذوقي يفضي إلى تنفيسٍ للمشاعر وإستحابة لدواعي الإبداع والتألق..
يُعاب على الشاعر في قصيدته التي اشتهرت غنائياً يابوي انا يابوي أنها نحت نحو التصوير الحسي المباشر
ذا هندي الأجفان*
طلياني البنيان
امريكي النهدين
لاقد خطر يابوي
يرف في قلبي
وإن وقف يابوي 
ماشي معي قلبين
----------
والحقيقة إن هذه الملاحظة النقديةَ لم تلتفتْ إلى طبيعة المرحلة العمرية الذي كان فيه الشاعر في شرخِ الشباب حيثُ كانَ متأثراً بما كانَ سائداً في تلك الفترة من أفلامٍ خاصةً الهندية والأمريكية إذْ القى عليه الجمالُ مسؤليةَ ترجمة ذالك الإحساس بمشاهدات خياليةٍ وبأسلوب خبري مزجه بتلقائيةٍ ذاتية واستخدمَ اللغةَ كمعادلٍ موضوعي لتلك الأحاسيس وقد زانتْ الكلمات ذالك اللحن والأداء وأسلوب الغناء بنكهته  اللحجية المميّزة فظلّتْ هنا عاطفة سطحية مجردّة من أيِّ إلتباسات أو تحميلها فوق طاقتها والملاحظة أغفلتْ تماماً الجانب الإيجابي وهو ذالك النبوغ الشعري في هذا السن وتلك الحبكة الدرامية الفنية التي قُدمت بصورة طربية على طبق شهي من متلازمات البلاغة والقوالب التشبيهية والإنحناءآت  الفنية الممتعة فظلت إلى اليوم محتفظة بذالك الألق والحضور والمتعة والسردية الخيالية..
إذن الشاعر هنا استهواه الخيال فعاش في جوفه يأخذ منه مايرسم به الجمال على نحو من الإبداع والفن..لكن هذا لايعني أن الشاعر عزل نفسه واستغرقها في منادمة الجمال ومداعبة الخيال بل أنه استخدم نفس اللغة ونفس الأدوات في إنشاء منظومة أخرى من العبارات والسياقات الأدبية والجمل والمفردات لإثبات أن ذالك شكلٌ آخر وإمتدادٌ طبيعي لمستوى قدراته وتنويعاته لأنه ببساطة شديدة هو مبدع له موقف في الحياة يعيشها كما يراها ويرسمها كما يجب أن تكون..
خلّي في جبينه يطلع قامري*
خلّي في خدوده جنبه ناظري
خلّي في شفاته خمرة خاطري
خلّي في غرامه ظلَّ السامري
هو إعادة ضخ صور لمشاهد تشببهية يستخدمها على سبيل المجاز..
----------