آخر تحديث :الثلاثاء-07 مايو 2024-08:07ص

الرسم البياني في شعر أمان

الجمعة - 03 مارس 2023 - الساعة 10:25 م

فهمي غانم
بقلم: فهمي غانم
- ارشيف الكاتب


كيفَ لنا أن نرسمَ صورةً جميلة لفنانٍ وشاعر جميل مثل لطفي جعفر  أمان إذا لم نجمعْ جزيئاتها من تلكَ القريحة التي أنتجتْ عنواناً كبيراً في سماوات الأدب والثقافة وجعلت منه فارساً ومبدعاً خطَّ بشعره أسلوباً جديداً تفرّدَ به حتى غذا صولجاناً للشعر قائماً بذاته..
فهذا الأديبُ والشاعر الكبير والمربي القدير ملئَ الذاكرةَ الثقافيةَ وشغلَ كلَّ الفراغات والمساحات الأدبيةِ والفنية والزمنية خلال عمره الممتد منذ عام 1928م وحتى وفاته في عام 1972 م فعبرَ بنا خلالها إلى أنواعٍ من القول الجميل والتراكمات اللفظية المموسقة ممهورة بختم مدرسة الإبداع الرومانسي ومازال تأثيرها ينعش الأجيال ويمدّها بذالك الرواح النفسي والإنتعاش العقلي فقد تعرّفنا من خلاله على أبجدياتِ هذا النوع الأدبي شعراً ونثراً وكيفَ أتقنَ صنعته ونسج منواله حتى أصبحَ رائداً له تخلّقَ على يديه وظهرَ قوياً كمذهبٍ أدبي جديد ومستقّل  بكلِّ تجلّياته العاطفية ومسحته الصوفية التي عملتْ على ترقية الإحساس ورسمِ الخيال وصعودِ الحالة الذوقية للوصول بها إلى مرحلةِ الإكتفاء والشّبعِ الروحي..

***
مش مصدق إنك أنتَ جنبي
أنتَ ياللي خيال ضحيت له عمري
أنتَ ياللي تأخذ من حياتي كل دقيقة
مش مصدق إنك بين أحضاني حقيقة 
بل أجمل من حقيقة
كيف أنثر لك إحساسي وأشواقي دموع
كيف أضحك وأعشق النار التي بين الضلوع
كيف أتعذب بحبك كيف خليتنا أحبك

***
إذن ينطلق لطفي من حالة وجدانية عاشقة غمرته وتلبّسته ومن خلالها بنى عليها كلَّ هياكله الشعرية وقاس عليها كل تفاعلاته الروحية وعطاءه الادبي فهو فنانٌ شامل جمع الحبَّ من أطرافه يغنّي شعراً ويلحّن ويرسم وقد أهلّه كلُّ ذالك في نقلِ إحساسه وموهبته إلى الشعر بكلِّ سلاسةٍ ودقّة فكان يرسم بالكلمات لوحاتٍ وصوراً عبّرتْ عن حرفيةٍ ماهرة فلم يكنْ حرفهُ الشعري إلاّ ريشةً استخدمها في توليدِ المعاني وإخراجِ الصور وتلوينِ الحروف على نحوٍ يجسّدُ فيها أحواله الإبداعية ومتوالياتها في نفسه فتخرجُ مطرزةً بتلكَ الحرائر المنبسطة الموشّاة بفنونِ الكلام وإمتداداته في زمن الشعر الجميل لعدن الجميلة وقد برز ذالك أكثر في شعره الغنائي فإذا تطلعنا على نمادج منه فإنّه سوف تستوقفنا تلك الصورُ البلاغية ومشاهدُ التصوير الحي وأناقةُ التعبير ودقةُ الوصف حتى يُخيّل إلينا أنّنا في جدلية متقنة بين الشاعر وشعره

***
في جفونك مرود السحر استوى
يامكحل بالهوى
شوف ماسويت بالقلب التوى
يامعطر بالذي بانك علا
كلما تخطر دلا
شوف جروحي نظرتك أم بسمتك
قتلت أم خطرتك
اه ياقاتل ومحي ميتك

***
لاحظ البيت الأخير  كيف صاغ جدلية الحياة والموت في اروع مزج بلاغي جميل.. 
لم يقولبْ الشاعر لطفي جعفر أمان  نفسه ولم يحجزها بين قوسين ولم يختزلها في شعرٍ تجريدي بوهيمي خيالي بل التزمَ بمعايير مدرسته التي تنطلق من واقع أفرزته التفاعلات الثقافية والأدبية في عالم جديد أخذ يتشكّل وفقاً للتقدّم العلمي واسلوب التفكير الذي وجد له بيئةً خصبة في المحيط العربي وكان لها إرتداداته الإبداعية في الحاضنة المحلية إذ تلقّفته وعنتْ به حتى أصبح لوناً قائماً بذاته وأثمرَ ذالك الجهد الإبداعي الذي مثلّه لطفي في كلِّ أعماله الأدبية والشعرية ورفعتْ به إلى مقام الإمارة الأدبية..

***
ياساحل أبين بنى العشّاق فيك معبد
كم من فتى يعشق
ويحن للرملة
اللي يصيد الهوى فيك
مايخاف المد
حتى لو يغرق
تكفيه فيه ليلة
لك يد تمتد من فوق المطَلّع ويد
في صيرة تترقرق
تسكب هواك كله
والبحر والرمل والبدر والحبيب يشهد على الهوى والوداد
مابيننا الأثنين

***
كانت عبقريةُ لطفي أمان أنّه تعاملَ مع إلتراثِ الشعري بحساسيةِ مبدع تأمله كإمتدادٍ تاريخي وتدوير زمني إبداعي فلم ينقصه حقه  ولم يعملْ على تجريفه أو تجاهله ولكنه يؤمن في نفس الوقت أنّ الجديد يولد من رحم القديم كحالة تناسلية إبداعية وإحلال سليم يملئ الفراغ بعيداً عن أيّ عوارٍ أدبي يمكن أن يلحق بالطرفين لذالك وجد فيه الكفاءة والقدرة على تسجيل نفسه كمبادرٍ ومبتكر في الوسط الادبي..
لطفي الشاعر الأديب لم يرَ مثلاً أنّ الشعر العمودي هو ذالك الشكل النمطي الذي كسدتْ بضاعته وآنَ الاوان لإختراقه كما رأى الكثير من شعراء الحداثة الذين وقفوا على الطرف الحاد وأرادوا تقليم أظافره لكن لطفي رشّدَ موقفه الأدبي فلم ينجرْ إلى تجاوز ذالك التراث الشعري الضخم بل فعّلَ فيه تلك الخلايا والجينات الحيّة القابلة للتطور أمسك فيها وأدخل فيها بصمات مذهبه الرومانسي وبصمته الشخصية كشاعرٍ مبتكر ومبادرٍ قادر على حشد تصوراته لتحديثه وعصرنتة وإدخال تغيير في مظهره العام يعكسُ عصراً متحركاً تموجُ فيه كلُّ أنواع التبدّلاتِ السياسية والاجتماعية والثقافية والأدبية فكان لزاماً حدوث تغيير ما يعيد صياغة الحرف الشعري على نحوٍ آخر ولهذ فقد تطلّعَ الشاعرُ المبدع لطفي أمان إلى مايمكن فعله في إعادةِ تصميم الشعر وإعادةِ هيكلته على نحوٍ يوفّر له مناخاً تعبيرياً ومتنفساً بالغَ التأثير لإستقامةِ النص مشفوعاً بثقافته الواسعة ومواهبه المتعدّدة وتأثره بالمذاهب التعبيرية الجديدة وروّادها الذين تماهه كثيراً معهم كعلي محمود طه وإبراهيم ناجي والتيجاني يوسف بشير وشعراء المهجر وقراءته بشكلٍ خاص الأدبَ الانجليزي ومن مصادره وكان ذالك إيذاناً منه بحملِ رايةِ التغيير وتكوين إتجاه جديد يحرّرُ الشعرَ من تبعات التقليد المفرط ويؤسّسُ لحالةٍ إبداعية فارقة بين زمنين ولونين ومدرستين..

***
إلى متى..إلى متى..
أحتار في حبّك كذا
وأسأل ظنوني عن هواك
وأخاف يضيع عمري سُدى
قلّي بصراحة..ايش نهاية حبنا
من بعد ذا
هي كلمة منّك..كلمة واحدة
ياكذا..ولاّ كذا..

***
طرح الشاعر معادلة فنية جديدة للشعر لاتقوم على الإستغراق في الماضي وتقليب صفحات ديوان العرب الشعري الذي تقادمت عليه السنون وهذا يمثّلُ نوعاً من الجرأة الأدبية أمامَ جبروتِ وقوّةِ المدرسة التقليدية الكلاسيكية وخصومه المفترضين من شعراءِها ووفقاً لقواعدِ الإشتباك الأدبي طرحَ محتوى جديد للشعر ليس ردّ فعلٍ عاطفي او فعلٍ مضاد بقدر ماهي رؤية ومبادرة أدبية ترى في نفسها الأحقيةَ في الإنزياح نحو إعادة صياغة موضوعاتها وفقاً للحداثة والتطوّر التاريخي ودورةِ الزمن ولكن بقراءةٍ مختلفة ناضجة لكلِّ التراث الشعري التقليدي ليس لكسره وإنما لإعادةِ تخليق الصورة وتموضعها في إطار الإبداع نفسه الذي لايميل إلى الشرودِ بالقصيدة نحو مالآتِ  التقسيمِ النمطي الذي يبدأ بالوصف ولاينتهي إلاّ بالبكاء والاطلال..

***
زمان كانت لنا أيام
ليالي الحب
تطويها يد الماضي
فقط ذكرى
لنا فيها
وكأس فاضي
خلا من فرحنا الوادي
وغاب النور والأنغام
فلا طير المنى شادي
ولازهر الهوى بسّام

***
وقد أنتجَ أمان إنتاجاً شعرياً وأدبياً حملَ بصمته الذي ميزّه بين أقرانه الآخرين وقد اتّسم شعره بعمقِ المعاني وجزالةِ اللفظ وفخامةِ العبارة ووفرةِ الخيال وقوّةِ الصنعة وإنسيابيةِ الأداء وجمالِ الحبكة فنحن أمام فانتازيا تبهرك وتعيد تشكيلك على نحوٍ جميل فإذا أسقطنا هذه الصفات على شعر لطفي كنموذجٍ لهذا المذهب وماأضاف إليه سنرى دونَ عناء شعراً رقيقاً يوسّعُ دائرةَ الخيال ويظهرُ أنّاتِ النفس ولوعتها..

***
يامزهر الحزين
من يرعش الحنين
إلى ملاعب الصبا
وحبّنا الدفين
هناك حيث رفرفت
على جناح لهونا
أعذب ساعات السنين

***
هذا جزء من قصيدة طويلة نسبياً بل أسطورة تحكي تلك السرديةُ التاريخية والمشاهد ونماذج من البطولات التي اجترحتها الأمةُ أمامَ غزوِ المستعمر..
هنا حديث النّفس الملتاعة وإستدعاء الحنين من الماضي ولكنْ بألفاظِ الأناقةِ والفخامةِ والقوةِ والتحدي والرقّةِ أحيانا لإثارةِ الخيال ولشحن الحاضر وتغذيته بوشائج الإنتماء للوطن

***
يابلادي يانداءً هاذراً يعصفُ بي
يابلادي ياترى جدي وإبني وأبي
ياكنوزاً لاتساويها كنوز الذهب
اقفزي من قمة الطود لأعلى الشهب

***
إنَّ الشاعر الكبير الأستاذ لطفي  أمان هنا يطرحُ فهماً مرناً للشعر بما فيه الشعر الوطني المعبر عن الواقع المعاش ويستحضر كل المفردات والجمل الشعرية القابضة على جمرة النار ترفع منسوبها على صعيد الفعل المؤطر بالقول الجميل..

***
أخي كبلوني
وغُلَّ لساني واتهموني
بأني تعاليت بعفتي
ووزعتُ روحي على تربتي فتخنقُ أنفاسهم قبضتي
لأنّي أقدسُ حريتي

***
هي مناسبة للوقوف مع صديق عمره المناضل الوطني عبدالله عبد الرزاق باذيب عند محاكمته ايام الإحتلال لمقال نشره عن المسيح الذي يتكلم الإنجليزية ونشرت في صحيفة النور لصاحبها المناضل الوطني محمد سالم باسندوة وكانت مناسبة لحقن الجسد الشعري بإنزيمات مضادة لأي إنهزامية أمام تغوّل المحتل..
هنا يجذر بنا القول كخاتمة ومن باب الإنصاف لهذا المبدع الذي وزع روحه على تراب الوطن أن نضعه في إطاره الحقيقي وبروازٍه الذهبي فهو لم يأتِ إلاّ ليضعَ أثراً لايغيب بذالك الإرثِ الثقافي والفني والشعري والصوتي وتلك الروح الشفّافة والعقل الناضج وإنسانيتة الراقية حتى يشعرك أمان نفسه أنّك في بيوت الأمان من أشعارٍ فيها أنفاسه وعصارة تفكيره وهيامه وماحملته من أنواع التشبيه الحقيقي والمجازي والإقتباس اللفظي والمعنوي في متواليات فنيّة لايجيدها إلاّ العبقري لطفي جعفر أمان

***
أسمر وعيونه
تلعب بي جفونه
ميلاد الفجر على جبينه
وجماله وسحره وفنونه
إنه أسمر
أسمر مولود
في روح العنبر وأصل العود
يخطر على نغمة تروح وتعود
عاد لمّا يدّور عيونه السود
آه من أسمر

***انتهى***