آخر تحديث :الجمعة-19 أبريل 2024-02:25م

الطبيعةُ تُعالج نَفسها

السبت - 04 فبراير 2023 - الساعة 04:53 م

فيصل الشميري
بقلم: فيصل الشميري
- ارشيف الكاتب


تُـعدُّ المياه مَصدر الحيـاة بلا مُنازع، والأرض مَهد المُخلوقات بلا مُنافس، وسلامة الأرض التي تعتبر كأهم مكونات الطبيعة، فهي عُنصر أساسي لتحقيق التنـمية الـمـُستدامة للقطاع الزراعي بلا مُوانع. ولكي نفهم العلاقات التبادلية بين الإنسان والغذاء، والذي يعتمد على العلاقة بين الطُبوغرافيا والمناخ، وبين النبات والمناخ، وبين التربة والنبات، وأي انحراف فيهما قد يُظهر الـمشاكل، ومنها التي ظهرت على السطح مشكلة الـمُلوحة، وتُصنف مُلوحة الأراضي اليوم، كأحد العوامل الرئيسة في العالم، الـمـُؤثرة والـمُعرقلة لتطور القطاع الزراعي ونموه وإنتاجه، والذي بدوره يؤثر على جميع مَناحي الحياة، فالغذاء قبلة البشرية، وأساس بقائها.  إذن ما الملوحة؟ وما أسبابها؟ وكيف يمكن معالجتها..!؟

تُعاني الأراضي الزراعية حول العالم من "الملوحة"، وأصبحت من المشاكل الرئيسة التي استحوذت مؤخرًا على اهتمام دولي كبير، بسبب تأثير الـمـُلوحة السلبي على إنتاج المحاصيل الحقلية والخضروات والفواكه وكذلك نباتات الزينة، بالإضافة إلى الأعـلاف الحيـوانية، مـما يشكـل خطـرًا حقيقيًا عـلى الأمن الغذائي والمائي العالمي.

حيث تُقدر زيادة السكان حول العالم بحلول سنة 2050 إلى أكثر من عشرة مليارات نسمة، بالتالي ستزيد الاحتياجات الغذائية، خاصة في الدول النامية، وفي ظل تناقص الرقعة الزراعية ومن ضمن أسبابها التملح ستكون المعضلة كُبرى.

ذكرت مُنظمة الـفاو أن 10% من الأراضي الصالحة للزراعة حول العالم مُهددة بالملوحة، وقد بلغت نسبتُـها في منطقتي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا فقط11.2%، في حين أن 2 % فقط من تلك النسبة يتم مُعالجتها، بمعنى آخر أن مُعدل التملح يزيد عن مُعدل الأراضي الـمُعالجة بأربعة أضعاف، مما قد يُؤثر على الإنتاجِ المحصولي من الحبوب بنسبة 10%.

 وقد ذكر باحثون أن أكثر من 17% من الأراضي الصالحة للزراعة حول العالم والتي يتم ريها والتي تسهم بنسبة 40% تقريباً من إنتاج الغذاء عالميًا، إلا أن 8% من تلك الأراضي الـمروية تضررت بالملوحة بدرجات مُتفاوتة (خفيفة، ومتوسطة وعالية الملوحة) خلال السنوات الأخيرة. 

وفي مؤشر إحصائي أممي يذكر أن ما لا يقل عن ثلاثة هكتارات كل دقيقة زمنية، من الأراضي الصالحة للزراعة تُفقد، بسبب التملح، أي أن هناك ما يربو عن مليون ونصف المليون هكتار سنويًا تُفقد، وتخرج عن نطاق الزراعة...!

ويُقصد بالملوحة اختصارًا: زيادة تركيز نسبة الأملاح الكمّي في الطبقة الزراعية، مما ينتج عنه عجز جذور النباتات والمزروعات عن امتصاص الماء، مما يؤدي إلى إعاقة نموها وإنتاجها، ومن ثم موتها واندثارها.

يقول الفيلسوف اليوناني فيثاغورس: "إن الملح يُولد من أنقى الآباء، وهما الشمس والبحر". إلا أن زيادة نسبة الملح في الأرض تُهلك الحرث والنسل، وتثقل كاهل المزارع وتفقده أصوله ومورده الرئيس.

ولها عدة أسباب منها طرق الرّي غير المُناسبة، أو الرّي بماء عالي الملوحة، وسوء إدارة المياه عمومًا، كما أن هناك بعض الأراضي تكون مالحة بالأصل، وذات مستويات مرتفعة من الأملاح والمياه الأرضية، وذات تربة صلبة غير قابلة للتصريف والغسيل، بالإضافة إلى عوامل التعرية وعلى رأسها الرياح فتجف الأرض، والتي تتمحور جميعها حول التغيير المناخي، والسلوكيات الزراعية الخاطئة، والأنشطة البشرية الهدّامة في الممارسات الـمُتحيزة كالاحتطابِ الجائر، والتمدد العمراني، والمخلفات الصناعية والبنائية وغيرها، والتي تركزت في المناطق الجافة وشبه الجافة، خصوصًا في المناطق التي تُعاني من زحف الكثبان الرملية.

وتُصنف المنطقة العربية كإحدى هذه المناطق الجافة؛ بسبب أن معظم الطبقات الأرضية السطحية تندرج تحت التربة المالحة ذات الكثبان الرملية المتحركة، حيث إن 45% من الأراضي الزراعية، تعاني من الملوحة المتوسطة، طبقاً لإحصائيات الفاو، وذلك بسبب التشبع بالمياه، فارتفعت ملوحة التربة، وأصبحت من التحديات الرئيسة لاستدامة الممارسات الزراعية ، بسبب أحواض الصرف الـمـُغلقة، وقد تفاقمت المشكلة خلال العقدين الماضيين، لذا فإن الموارد المائية تتعرض لضغوط كبيرة، بسبب الرّي الجائر والمُفرط الذي قد يتجاوز الاحتياجات الفعلية للمحاصيل المزروعة، فتزداد مُعدلات البخر، مما يسبب مشاكل شديدة في ملوحة التربة، ومن الأسباب أيضًا قلة معدل سقوط الأمطار وتفاوتها الكمّية والزَمنية خلال تلك الفترة.

تُؤثر الملوحة على كثافة الغطاء النباتي، حيث ذكرت دراسة علمية أن الغطاء النباتي انخفض بنسبة 6.31 % خلال الفترة بين عامي 2000-2013، وأن هناك علاقة عكسية بين نسبة الملوحة، وكثافة الغطاء النباتي. كما يمكن أن يؤدي تراكم الـملوحة على مدى فترات طويلة، إلى تقليل الإنتاج الزراعي، والانقراض لبعض النباتات والبيئات النباتية والحيوانية والحشرية بشكل عام، مما ينتج عن ذلك خسائر اقتصادية سنوية يمكن أن تزيد عن 27 مليـار دولار سنويًا.

إلا أنه في السنوات الجارية، ولمواجهة هذه البيئة الجافة والمالحة، هناك توجه وخطط استراتيجية طويلة الأمد، تشمل زيادة مُعدل استصلاح الأراضي، والدفع بعملية غسيل الأراضي الملحية والقلوية والحامضية على حدٍ سواء، ودراسة تكاليفها، ومراجعة طُرق الرّي وضبطها، ومعالجة المياه الـمُعدة للزراعة. ودعم الزراعة المائية، والبيوت المحمية، وإعادة تدوير المياه، واتباع الخطوات السليمة في عمليات الزراعة المختلفة، وزراعة مصدات الرياح، وحماية التربة الزراعية من الانجراف، واستخدام الأسمدة العضوية، وترك بقايا المخلفات الزراعية، لتعزيز تماسك وغروية التربة، كما يجب زراعة المحاصيل طبقًا لمدى تحملها للملوحة، ودرجة ملوحة الأرض المزروعة فيها.

كَما أن هُناك مساعي أممية في استخدام التقنيَّات النَّووية المتقدمة، للحدِّ من ملوحة الأراضي، حيث تبذل الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالتعاون مع منظمة الفاو، في كثير من البلدان الشرق اوسطية والتي تندرج تحت

"مُنظمة ARASIA"  والتي تُعاني من الملوحة، ويرتكز نشاطها في نشر الممارسات الزراعية الذكية، وبناء القدرات في استخدام النظائر، لزيادة كفاءة استخدام المواد الـمُغذية، وتعزيز تثبيت النيتروجين البيولوجي مع الكربون الموجود في التربة، بالإضافة إلى نشر الشروط الواجب مراعاتها، والبروتكولات المعمول بها ، وطرق تقدير نسبة التملح، والتدريب وقنوات لتبادل المعلومات والبيانات مع كافة الدول المشاركة، وقد نجحت هذه الطريقة في كثير من البلدان مع العديد من الأصناف الزراعية، ومن ضمن هذه الدول اليمن والسعودية.

ومنْ أهم الخطوات العملية العلمية التي خطت المنطقة فيها بعمق، هو تعزيز زراعة النباتات والمحاصيل الـمُقاومة للملوحة، عن طريق الهندسة الجينية، والانتخاب الوراثي للمحاصيل الرئيسة، بالتعاون مع الجامعات والمراكز البحثية. كما أن هناك مجموعة من النباتات تتحمل الملوحة والجفاف، وتعيش تحت ظروف المنطقة، والتي قد تأقلمت مع تلك البيئات عبر عقود طويلة، ويمكن الاستفادة منها وإكثارها والاستفادة من جيناتها طبقًا للعائلة والصنف الوراثي، وكذلك زراعتها لتوفير الـمُسطحات الخضراء والأحزمة الخضراء حول المدن للحفاظ على البيئة، والحدّ من التغير المناخي. كما يجب تجنب زراعة وإدخال النباتات الحسّاسة للملوحة، والتي انتشرت بشكل كبير مؤخرًا كنباتات الزينة الواردة للمملكة، والمستخدمة في التنسيق والتجميل في الشوارع والحدائق والمتنزهات، والتي لا تتحمل أي مُستويات من الإجهاد الملحي وتصنف ضمن النباتات الحساسة للملوحة، كما أن احتياجاتها من المياه مرتفعة، ولا نعلم خطورتها على البيئة والنباتات الأخرى مُستقبلًا...!

وفي الآونة الأخيرة والمستقبلية، هناك مُؤشرات للتفاؤل بأمل كبير وتغير جذري لمستويات الملوحة، حيث تشير الدراسات الحديثة إلى أن مُعدل سقوط الأمطار قد يزيد في السنوات الأخيرة على شبه الجزيرة العربية، طبقًا لمؤشرات الطقس العالمية، مما يُبشر بان الطبيعية تسعى جاهدة في معالجة نفسها بنفسها كتقدير إلهي، قد يُغير من الهيكلة العامة للظروف البيئية القاحلة في الجزيرة العربية، ولمعظم مشاكل التُربة والزراعة والإنتاج عمومًا؛ حيث إن لهطول الأمطار فوائد بيئية وصحية على الأرض والإنسان والحيوان وكل الكائنات، كما ستُساعد في تحسين جودة التربة، وزيادة المساحات الخضراء والغطاء النباتي، وتوفير الغذاء للحيوانات والنحل والحشرات، والحفاظ على المنظومة البيئية، مما ينعكس بشكل إيجابي على سلامة البيئة بكافة مُحتوياتها ومكوناتها.