آخر تحديث :الجمعة-19 أبريل 2024-07:45ص

أبو فـــــاس!

السبت - 28 يناير 2023 - الساعة 11:43 ص

فيصل الشميري
بقلم: فيصل الشميري
- ارشيف الكاتب


نعيش في زمن، نواجه فيه الكثير من المصاعب والصراعات والأشخاص والأحداث، وكل حدث له مميزاته وسلبياته ودروسه، ولكل شخص ميوله وسلوكه وأيديولوجياته، وفي زمن أصبح التوثيق والتجويد والاستدامة والأخلاقيات من أولى الاهتمامات البحثية والعملية على المستوى الفردي أو الجماعي أو المؤسسي وما فوقهما، إلا أن بعض الأفراد يرون ويعملون غير ذلك، ويتمسكون بكل شيء، ويدَّعون أنهم يعرفون كل شيء، وأن لا بديل لهم، وهم أشبه بأحد العلاجات الشعبية الـمُنتشرة والـمشهورة الذي يُستخدم لعلاج كل الأمراض قديمًا في الأرياف ويُسمى بــــ "أبو فاس".

ستواجه الكثير من الأفراد ممن يحملون تلك الصفات، في البيت، وفي العمل، وفي الجامعة، وفي المدرسة، وفي الوظيفة، في أي مكان، حتى على مستوى السَّاسَة وصُناع القرار وهُنا المعضلة الكبرى.

وعندما تُسقط عليهم ملامح الشخصية النرجسية ومعالـمها، ستجدها تنطبق عليهم حرفيًا وفعليًا بتعدد أنواعها؛ لأنهم يدَّعون مَعرفة كل شيء، ولا يعترفون لغيرهم، مع أن الكثيرين يقومون بعملهم بكل أريحية وجودة وسهولة ويسّر، لكنهم لا يتركون لغيرهم المجال أو الحوار أو العمل، وإن حادثتهم بذلك يعرضون بكل تَعالٍ، وهذا نقص في دَاخلهم لِيَمْلَؤُونَ فراغهم وَخَوْفَهُمْ وكبرياءهم وَهَوَسَهُمْ وأنانيتهم وجشعهم.

عُلماء النفس يعللون تلك التصرفات أنها تراكمات في داخلهم منذ طفولتهم، وتكبر وتتعاظم وتصبح سلوكًا قسريًا لديهم، يستكثرون قول شكرًا أو إعجابًا أو سماع ثناءً للآخرين او أي مُقابل مادياً أو معنوياً، يريدون كل ذلك لوحدهم فقط، وبهذا يحاولون جاهدين تدمير غيرهم بأية طريقة، فهم كالبوق ينقلون كل شيء، كل الأصوات، أصوات الملائكة، وأصوات الشياطين، أصوات النحل، وأصوات الذباب، ليوظف كل ذلك لكي يشوّه صُورتك، وعملك وإنجازاتك، لِيُحَوِّلهَا إِلَى مصائب وَمُعْضِلَاتٍ، ليبرز تَفَانِيهُ، وَمَا أَكْثَرَهُمْ فِي زماننا هَذَا..!

مثل هؤلاء الأشخاص ابتعد عنهم، تجنب نقاشهم، لا تحاول تعديل عملهم أو فكرهم أو سلوكهم، فكل شيء قد تعمله معهم عقيم، حوار أو كلام أو نقاش أو فعل، "أبو فاس" هو المدير، وهو رئيس القسم، وهو الموظف، وهو السكرتير، وهو الفرّاش، وهو الحارس، وهو الجَنائنِيّ، هو كل شيء..!

هو العالم والخبير الدولي، والشيخ المخملي، والباحث والدراس والمعملي والمُحلل والمؤلف والناشر، هو السياسي والاديب والجهبذ والمهتم ورئيس التحرير والمحرر والمدقق والمراجع والناقد، والمقرر ونظرته هي العُليا، وذو الرؤية والاقتراحات الخُنفشارية في كافة المجالات والتخصصات، صاحب جميع الإجابات والفتاوى، وحلاّل المشاكل، وصاحب النظرةُ الثاقبة، ومع أن التوجيه الرباني واضح وصريح كما ورد في سورة الإسراء؛ إذ قال المولى عزوجل: ﴿وَلَا تَقۡفُ مَا لَیۡسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلفُؤَادَ كُلُّ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡـُٔولࣰا﴾ صدق الله العظيم، الإسراء (36).

نحن أمام مُعضلة تتنامى وتتكاثر في مُجتمعاتنا بمثل هؤلاء الخنفشاريين، إنهم لا يدَعون لغيرهم المجال، ويأخرون الأعمال، إنهم كثيرو الوعود، قليلو الإيفاء، يختلقون الأعذار، ويدعون أن غيرهم غبي، وهم وحدهم الشُطّار، وهم أخطر فئة في أي جهة وأي مصلحة وأي كيان كان؛ لأنهم يسببون إرهاقات نفسية، وخسائر للكوادر البشرية، وخسائر مادية، وانتكاسات عِلمية وعَملية، فادعاء المعرفة والمستحوذون على كل شيء، هم في الحقيقة يذكروني بالمثل المصري: "صاحب صنعتين كذاب، وصاحب ثلاث صنعات حرامي" فَكَمْ هناك مَنْ " كَذَّاب وَحَرَامِيّ " فِي مرَافِقِنَا...!.

"أبو فاس" يدّعي معرفة كل شيء، ولا يدع للآخرين مُشاركة الأفكار والأعمال، ويحجّم الجميع من المشاركة معه؛ لأنه يقوم بمقام المُحارب والمُهاجم والحَارس، فلا يقبل أي كُرةٍ أو فكرةٍ بالدخولِ لحلبة الاجتماعات، وحظيرة الأعمال، ومعمل الأفكار والأبحاث، والدائرة الوظيفية، يهاجم بكل سلبية ودونية وتعال وثقة فضفاضة، وفي الحديث الشريف قال النبي صلوات ربي وسلامه عليه: (إِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ الَّذِينَ يُكْرَمُونَ اتِّقَاءَ أَلْسِنَتِهِمْ).

وجود "أبو فاس" بأي مصلحة أو إدارة أمر مفروغ منه وشيء حاصل، لكن تختلف النسبة من مرفق إلى آخر، لكن يجب على المسؤول عنه، تجحيمه بلياقة، وإشغاله بعمل مُضنٍ، بعيدًا عن البيئة الداخلية لبقية الموظفين، ويجب تجنب المواجهة معه، ولا تحاول تغييره، وابحث عن نقاط ضعفه، وقبل أن تتحدث معه، قم بالثناء والإطراء عليه، ثم اطرح بعض الأفكار ولا تطلب منه سرعة القرار، إلا بعد مُدة لعله يستفيق، وَلَكِن يَحْتَاجُ لفترةٍ طَوِيلَةٍ حَتَّى يُصْبِحُ سَوِيَّا وفعالاً وَمُنْسَجِمَا ومتقبلاً لِلْآخِرِ...!.

في الوقت الراهن أضحت الاخلاقيات والجودة من أهم المعايير لدى المؤسسات والشركات والجامعات والمدارس والمصانع والإدارات وكل المرافق، ويقصد به استمرار العمل بوتيرة مُتزنة متناسقة متكاملة مستدامة دون توقف وتخدم المؤسسة والمجتمع "لِتُؤَدِّي إِلَى النهوض والرقي وَالرِّبْحِ مَعَ رِضَا الْعُمَلَاَءِ"!.

بمعني آخر سهولة قيام أي شخص آخر بعمل وظيفة ما، داخل أي مؤسسة، مهما كان موقع هذه الوظيفة، حيث إن الوظائف يجب توصيفها بدقة متناهية، مع طُرق إجرائها وأدائها، زمنيًا ومكانيًا وفعليًا، بحيث لو تم ترقية فرد ما، أو استقال أو ذهب دُون رجعة، هناك البديل، وما عليه سوى قراءة المُسودة والدليل للوظيفة في الموارد البشرية، وما هي حيثياتها..؟ على أن يمتلك الفرد الأوليات العلمية والبدنية والعقلية، أما الخبرة فيتم اكتسابها خلال فترة التجربة، لينتج في الأخير مُنتج، أو خدمة، تُلبي احتياجات العملاء، ضمن مُواصفات ومعايير عالمية مُدونة طبقًا لنوع النشاط وتخصصه، وهِي إقْرَارٌ باستيفاء الْمُنْتِجِ النهائي لِكَافَّةِ مَعَايِيرِ الجودة..!.

وأصبحت كل الكيانات اليوم تتنافس للحصول على شهادات الجودة؛ لِأَنَّهَا دَليلٌ عَلَى الْكَفَاءةِ وحسن المنتج والإبداع التي تَصُبُّ جَمِيعُهَا فِي قالب التَّجْوِيدِ والاستدامة..!.

إذن لماذا عُملت فترة التجربة، التي لا تقل عن ثلاثة أشهر، ولا تزيد عن سنة في الغالب، وذلك بهدف معرفة مدى إلمام الفرد بتلك الوظيفة للقيام بها، وبكل واجباتها، وسلامة ما ينتجه، هنا فقط تكمن الجودة، ومعاييرها مُتعددة ومُتشعبة: جودة الإدارة، وجودة العاملين، وجودة المنتج، وجودة خدمة العملاء...إلخ.

إننا أمام مُتطلبات يجب على كل الكيانات - في أي مكان - ضرورة توصيف الوظيفة أيًا كان موقعها من أعلى الهرم حتى قاعدته، توصيف المنتج، وتوصيف العمليات، وتوصيف الخدمة، وضمان استدامتها...إلخ.

ومن هذا المنطلق وحرصًا على ذلك، يجب تفعيل النُظم الإلكترونية لجميع المعاملات، للابتعاد قدر الإمكان عن "أبو فاس"، وتسهيل مرور المعاملات بيسر وسهولة، وسرعة إنجاز، مع توصيف كل المتطلبات بوضوح لكل معاملة، ولكل عملية، ومع كل منتج، أيًا كان نوعه. ووضع الفرد المناسب في المكان المناسب، وتفعيل مبدأ المشاركة والعمل الجماعي، وإعطاء كل ذي حقٍ حقّه، ويجب احترام التخصصات والكفاءات، وتفعيل مبدأ التقييم والرقابة بشكل مُطلق مع كل عملية، ولكل منتج وبكل شفافية، وأخيرًا اِدِّعَاءَ الغباء مِنَ الذكاء، وَالْاِبْتِعَادَ عَنِ النرجسيين سلامةً لِلْبَالِ وحسن الحال لِلْهَنَاءِ.

باحث جامعة الملك سعود