آخر تحديث :الجمعة-19 أبريل 2024-11:02م

حديث قطين ،،،

الجمعة - 27 يناير 2023 - الساعة 05:02 م

د. سعيد سالم الحرباجي
بقلم: د. سعيد سالم الحرباجي
- ارشيف الكاتب


مقتطف من كتاب( وحي القلم ) للرافعي.
( عن الحرية يتحدثان ) ،،

وثبت من منزل قديم متهالك خرب ، وبالكاد حملته قدماه بعد أن وقع على الأرض من شدة الجوع ، تراه وقد التصق بطنه بظهره ، وتبدَّت عظامه كأنما همت أن تترك مسكنها من جلده لتجد لها مأى آخر  ، وغارت عيناه ، واحدودب ظهره ، ونحل جسمه ، وخارت قواه ،،،
فبينما هو كذلك إذا لمح نظره الحاد فأرة من بعيد ، فنسي تلك المعاناة ، وتغافل عن تلك  الأوجاع التي اعترت جسمه  ، فوثب وثبة سريعة طمعاً في الظفر بطعام يسد رمق جوعه ...
لكن لسوء حظه كانت الفأرة أسرع منه فأفلتت من بين مخالبه واختبأت في جحر ضيق تأمن فيه على حياتها .
فعاد المسكين يقرع سن الندم واستسلم للجوع الكافر... فتنحى جانباً يتحين خروجها ،،
فأخذ ينتظر  الساعة تلو الساعة ريثما تخرج تلك الفأرة اللعينة من جحرها ،،،،
فبينما هو كذلك ...إذ بقط سمين  يتقدم نحوه يتمايل جسمه لحماً وشحماً ، ولشعره الطويل النظيف الجميل بريقاً ولمعاناً ...فانكسرت نفسه ، وأخذته الحسرة .
فأخذ ذلك القط السمين يتبختر في مشيته ، ويتمايل في حركته ...فنظر إليه متعجباً ،وتحدث  إليه بازدراء ، واحتقار ، واستعلاء ...فلما تملت عيناه حال ذلك القط الهزيل أدركته الرحمة فقال له : 
ويحك ما بك ؟ 
مالي أراك كالميت لكنك لست بميت ؟
ومالك أُعطيت الحياة غير أنك لست بحيِِ؟
أوليس الهر منا صورة مختزلة من الأسد ؟
ويحك تكلم  ؟
أفلا يسقونك اللبن ،. ويطعمونك الجبن ، واللحم ، والشحم ، ويؤثرك الطفل ببعض طعامه ؟

فرد عليه القط الهزيل قائلاً :
رويدك رويدك ... وإنَّ لك كل تلك النعم ؟
قال : أجل .
قال القط الهزيل :  أما والله لقد جاءتك النعمة والبلادة معاً ، وصلحت لك الحياة وفسدت منك الغريزة ، وأحكمت طبعاً ونقضت طباعاً ، وشبعت بطناً وخسرت لذة ..
عطفوا عليك وافقدوك أن تعطف على نفسك ، وحملوك على أكفهم ...وأفقدوك أن تستقل .
وأصبح حالك كالدجاجة التي تُسمن لتُذبح ...غير أنهم يذبحونك دلالاً ، وملالاً !!!
فصاروا يجرونك من معدتك ...ويُفقدونك حريتك ، وتركوك ترفل في النعمة ، غير أنك مسلوب الإرادة ، مقيد الحركة !!

فيالك من  تعيس وبئيس !!
أين أنت من إرث أسلافك ، وأجداك ؟
أين أنت من لذات أعضائنا ، ومتاع أرواحنا التي تجعلنا نعيش من قبل الجسم كله ، لا من قبل المعدة وحدها ؟ 

قال السمين : لك الله ما أجمل منطقك يا أخي !!
لقد أكسبك الفقر حكمة ، وحياءً ، وأراني بإزائك معدوماً. 
ناشدتك الله إلا وصفت لي هذه اللذات التي تجعل للحياة طعماً خاصاً ، وللجوع لذة شهية ، وللحرمان مذاقاً متميزاً !!

قال الهزيل : 
إنك ضخم غير أنك أبله ..
أما علمت أن المحنة في العيش هي فكرة وقوة ، وهاتنان الصفتان هما أساس اللذة ، وأنَّ سُعار الجوع ، وشقاء الكسب هما سر إكسير حياتنا ، وأنَّ مكابدة الحياة زيادة في الحياة !!

إنَّ سر السعادة أن تكون لديك القوى الداخلية التي تجعل الحياة أحسن مما تكون ، وأن تمنع الأسوأ أن يكون أسوأ مما يكون ...
فأنت كالأسد في شكله غير أنَّك مقيد في قفص الأسر ، فأصبحت حركة في جلد ...
أمَّا أنا فأسد في مخالبي ، وورائي أنيابي .

إنَّ الحرية لتجعلني أتشمم من الهواء لذة الطعام ، واستروح من التراب لذة كلذة اللحم ، 
واستمتع بلسعة الجوع كاستمتاعك بلذة الشبع .
فالسعادة والشقاء...كالحق والباطل ...
كلها من قبل  اللذات لا من قبل الأسباب والعلل.
فأنت تسعد بعبوديتك المقيدة ...
وأنا أسعد بشقائي خلف رزقي ...
ولكن أين سعادة من سعادة ؟
أنا أسعد بلذة المعاناة ، ولذة الحرمان ،ولسعة الجوع ، وماكبدة الرزق ...لكني طليق لا يهمني أن أبيت طاوي البطن ، أو مجهداً من كد ، أو عليلاً من رمية حجر من طفل حاقد ،،،
وهذه والله لذائذ الحياة ،،

وكل تلك اللذائذ أنت محروم منها لأنك تطلبها بلا كد ، وبلا تعب ، وبلا معاناة ... فتوهب لك بقدر مزاج سيدك ، الذي لو غضب عليك غضبة لتخلَّص من حياتك نفسها ولا يبالي بك...لأنه سيشتري بماله قطاً أسمن منك ، وأجمل منك .

فنزلت تلك الكلمات كالصواعق على رأس القط السمين ..ثم قال لصاحبه هلَّم أتوحش معك، كي أتشمم عبق الحرية ، وأتذوق لذة المعاناة ،  وليكون لي مثل نكزك ، ودهائك ، وحكمتك ،،

لقد مللت حياة العبودية ،،
لقد مللت حياة العبودية ،،
وتاقت نفسي للحرية والعيش الكريم