نحن أمة خالية من المجانين الحقيقيين. وهذا أكبر عيوبنا. كل منا يريد أن يظهر قويا وعاقلا وحكيما ومتفهما ومنظرا.
يدخل الجميع في حالة من الأفتعال والبلادة وانعدام الحس تحت تلك الأقنعة فيتحول الجميع الى نسخ متشابهة مكررة.. ومملة.
في حياتنا كل شيء يجنن. وحين لا يجن أحدا فهذا يعني أن احاسيسنا متبلدة وأن فجائعنا لا تهزنا.
فالجنون عند بعض منا دلالة صحية على شعب معافى لا يتحمل إهانة.. ودلالة على أن الاصحاء لم يحتفظوا بعقولهم لأنهم لا يحسون بل احتفظوا بعقولهم لأنهم يعملون، أو لأنهم سوف يعملون على غسل الإهانة.
نحن في حاجة للجنون لكشف زيف التعقل والجبن واللامبالاة، فالجميع راضخون.. ينفعلون بالمقاييس المتاحة.. ويفرحون بالمقاييس المتاحة.. يضحكون بالمقاييس المتاحة.. ويبكون بالمقاييس المتاحة.
ولذلك ينهزمون.. بالمقاييس كلها، ولا بنتصرون ابدا.
بغتة يجن شخص، يخرج عن المألوف الخانق فيفضح حجم إذعاننا وقبولنا وتلثم أحاسيسنا، يظهر لنا كم هو واقع مرفوض ومقيت وخانق.. وكم هو واقع لا معقول ولا مقبول. كم هو مفجع ومبك وكم نحن خائفون وخانعون وقابلون.
في أتون الهزيمة.. والانكسار.. تولدت لدى كل انسان الرغبة في اعادة النظر في تفاصيل الحياة كلها.. الاجتماعية والسياسية والثقافية.. وحتى الحياة الشخصية.. الى درجة اننا صرنا لا نطيع اشارات المرور. وكان هذا دليلا على احساس الجميع ان الهزيمة لم يلحقها بنا العدو بل الحقها بنا تخلفنا وضعفنا وانعدام احساسنا بالمسؤولية والخطأ الذي، تقوم علية علاقاتنا اليومية.
ومن يجهل بلايا اليوم في وطننا يعيش على هامش الحياة، وبلايا اليوم كثيرة ومتعددة واحد اهم اسبابها ان البعض لا يزالون يطمحون الى اعادة مناقشة قضايا المرحلة الماضية واجترارها والتفكير في حلول لقضايا اليوم بالطريقة التي فكروا بها في الحلول لقضايا الامس.
لقد كان الرفض عنوان بارز لسياسة خاطئة، وان الانسان يمكن ان يروض كي يصبح ترسا في الة يديرها البعض عن بعد.
لقد خلطنا خلطا بيننا وعبثيا بين الوسائل، والغايات الى درجة ان الاختلاف على الوسيلة استنفذ منا جهدا وصراعا عميقين، نسينا من جراءة ان ننظر للغايات بل غابت عنا الغايات وتلاشت بسبب الاختلاف على الوسيلة.
ويجب ان نعرف تماما اننا بشرا لكلا منا ثقافته ومعتقداته. ولكن بيننا من الاختلاف ماهو صحي وحقيقي. ولن نخطو خطوة لتحقيق الغايات دون الاعتراف بهذا التعدد والاختلاف.
ان الصراعات والحروب لم تكن وليدة خلاف بين اشخاص معينين، بل هي وليدة تفتت وشتات فكري وانعدام رؤية، وجاءت الكوارث لتكشف عن هذا التشتت والتفتت ثم اتسعت الهوة بين الجماهير المسلوبة الوعي وبين القمة.
في شبابنا ونحن اغرار كان يتخيل الينا ان المستقبل ينادينا على حصان ابيض، على اننا كلما ركض بنا العمر كنا نصاب باحباط بعد احباط.
ولا يزيدنا المزيفون الأ انهيارا.
اما المستقبل الراقص فهو يبتعد ثم يبتعد كروئ المهؤوسين. واتسعت الهوة وخلق ذلك مشاكل عديدة تتغلغل في قلب تصورنا للمستقبل كالجرح الغائر.
ان تفكيرنا في المستقبل دار على نفسة (180)درجة يتجه الى الماضي.
نظرتنا المستقبلية نقلت عيوننا الى مؤخرة الراس. فصرنا نسقط الماضي التليد على المستقبل الطارق الوليد.