آخر تحديث :الأربعاء-08 مايو 2024-11:41م

كانتونات ومليشيات وسلام ملغم (قراءة في الملامح والمؤشرات)

الثلاثاء - 10 يناير 2023 - الساعة 04:47 م

باسم الشعبي
بقلم: باسم الشعبي
- ارشيف الكاتب


بعد تحرير العاصمة عدن في يوليو 2015، يعني قبل نحو سبع  سنوات ونصف تقريبا، وعندما كان الناس يطالبون الشرعية بتحسين مستوى الخدمات ورفع مستوى الوضع المعيشي، وتطبيع الأوضاع الأمنية والاقتصادية، وكانت هذه المطالب حديث الشارع ووسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، طلع لنا مسؤول كبير في الشرعية - بدرجة وزير وأمين عام حزب سابق - ليقول عبر حوار متلفز إن تحسين الأوضاع في عدن سوف يقود الجنوبيين إلى إعلان الانفصال، والأفضل أن تتركوهم هكذا يعيشون الأزمات في مختلف النواحي، حتى نحافظ على بقاء الوحدة..
مرت كل تلك السنوات منذ ذلك اليوم، لنكتشف أن الكلام الذي قاله ذلك المسؤول والقيادي في الشرعية ليس الهدف منه الحفاظ على الوحدة كما كان يزعم، وإنما لتمرير مشروع آخر أكثر خطورة على البلد، وهو التمزيق إلى دويلات وكانتونات متناثرة تحكمها مليشيات مناطقية وطائفية، حتى المحافظة التي ينتمي إليها ذلك المسؤول الجهبذ والوحدوي جداً أصبحت ثلاث دويلات أو ثلاثة كانتونات متناثرة، كانتون مع حزب الإصلاح في المدينة، وكانتون مع الحوثي في الحوبان، وكانتون مع طارق عفاش في المخا على ساحل البحر الأحمر.. فهل هذه هي الوحدة التي يريدها وكان يقصدها ذلك المسؤول؟! هل هذه هي الدولة والنظام الجمهوري الذي يريدون استعادته؟!
طبعا الهدف واضح، كما يبدو، فهؤلاء مجرد أدوات لتمرير مشروع التقسيم والتفتيت في الشمال، كما هو الحال في الجنوب.

وأكاد أجزم أن مطالب الناس في عدن بالخدمات وإنهاء الفساد وتطبيع الأوضاع، كان الهدف منها بناء نموذج ناجح للدولة في عدن باعتبارها عاصمة اليمن المؤقتة، وذلك للانطلاق منها لتحرير البلد، وصولاً إلى صنعاء وإنهاء الحرب واستعادة الدولة، ثم الجلوس على طاولة الحوار لطرح كل المشاريع للاتفاق على تسوية وطنية وعادلة بما يرضي الجميع، لإدراك الناس - من خلال التجارب - أن المشاريع لا يمكن أن تُفرض بالقوة، سواء أكانت الوحدة أو الانفصال، لكن الأدوات العميلة مجتمعة لم تكن تريد ذلك مطلقا، لأنه ليس لديها مشاريع وطنية مستقلة، بل هي مجندة لتنفيذ مشاريع الخارج في البلد، وهذا ما أثبتته الأيام منذ ذلك الوقت وحتى اليوم.. 
فالهدف المرسوم والذي هم متفقون على تنفيذه سريا هو التمزيق والتفتيت للبلد (شمالاً وجنوباً) بالاتفاق والتخادم مع الحوثي، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بما يخدم مخطط التفتيت والتمزيق. فلا يخدعنكم اختلاف توجهاتهم وشعاراتهم، فهذه لعبة سمجة وأدوار مرتبة من الخارج لخداع الناس وإرهاقهم وتتويههم، لكن الهدف والمخطط الذي يعملون جميعاً لخدمته وتنفيذه واحد.

في الجنوب نفس الشيء، خطابات وشعارات طويلة عريضة بالتحرير والدولة المستقلة، لكن المشروع الذي يتم على الأرض مختلف جداً، ففي عدن لوحدها سلطتان أو كانتونان يتنازعان السيطرة، هذا ما يلمسه الناس في الظاهر، إضافة إلى أن كل من لديه طقم وعشرة عسكر  ومجموعة بنادق يعمل له دولة لحاله، يستلم جبايات مالية وضرائب وعائدات مالية أخرى إلى كيسه الخاص، ولديهم أيضاً سجون خاصة خارج سيطرة وإشراف السلطة الشرعية، ولديهم نقاط أمنية وعسكرية خاصة، وغيرها من الممارسات التي قد لا ندركها ربما. وهذا يحدث في لحج المجاورة أيضاً، فهناك سلطات متعددة وكانتونات، وفي أبين الشيء نفسه، وفي شبوة المحررة كانتونان أو أكثر، وفي حضرموت كانتونان واحد في المكلا والآخر في سيئون، وفي المهرة كانتونات مماثلة، وفي سقطرى كانتون أو أكثر.

والسؤال هو: هل هذه هي الدولة الجنوبية التي نريد استعادتها؟! وكيف سيحدث ذلك وقد أصبح لكل كانتون مليشيات عسكرية وأمنية خاصة به؟!

قنبلة المليشيات

هل تعرفون الهدف من إنشاء كل هذه المليشيات في كل منطقة وحارة وزقاق، لاسيما في مناطق سيطرة الشرعية؟ 
الهدف واضح، وهو الاقتتال فيما بعد. هذه عبارة عن ألغام وقنابل موقوتة سيتم تحريكها وتفجيرها عن بُعد من قبل الداعم والمؤسس في حال خرج الناس للمطالبة برحيله، أو قرر الانسحاب من البلد. المخطط هو الاقتتال والتشظي أكثر فأكثر، لا يريدون أن يكون هناك جيش وطني إطلاقاً بإمكانه حماية البلد وإفشال مخطط التمزيق.

خلال ثمان سنوات تم بناء وتأسيس مليشيات مناطقية وأسرية وعائلية وقبلية، لا أحد يستطيع السيطرة عليها في الداخل، وتخضع بالأوامر لمن يدفع الرواتب والموازنات الشهرية.

ماذا يفعل اللواء هيثم قاسم طاهر، المكلف بدمج هذه المليشيات شمالاً وجنوباً في جيش وطني واحد؟ هل سيستطيع إيجاد جيش وطني واحد؟ مستحيل يحدث ذلك حالياً، وفي المدى المنظور.

إذا كانت الشرعية عاجزة منذ سنوات عن إيجاد غرفة عسكرية وأمنية واحدة للسيطرة على هذه المليشيات وإدارتها، فكيف ستستطيع دمج هذه المليشيات وإيجاد جيش وطني واحد؟ كل المؤشرات لا تدل على أننا سنوجد جيشاً وطنياً واحداً.
فمادام المشروع والمخطط تفتيت وتمزيق، فإن بقاء هذه المليشيات كما هي عليه هو ما سيحرص عليه جميع الشركاء في الشرعية، ومن يقف خلفهم من الخارج.

هذا العمل التفتيتي والمليشوي الهدف منه تخويف الشعب الرافض لهذا الوضع القائم، وابتزازه للقبول بالمخطط التمزيقي القادم الذي يريدونه أن يكون بشكل رسمي وقانوني.

هل أدركتم اللعبة؟

قبل فترة من الوقت قمت بصحبة عدد من الأصدقاء بزيارة عدد من الجبهات المحاذية لمنطقة شعب ناحية الصبيحة، فوجدنا بالقرب من الجبهات أسواقاً مشتركة لأفراد من جبهات الشرعية والحوثي، فسألنا الجنود من طرف المقاومة التابعة للشرعية وحلفائها: كيف يحدث ذلك وأنتم بينكم حرب وقتال ودماء؟! قالوا هذا ما تراه، الأمور طبيعية بيننا. وأضافوا: في المساء يعود كل طرف إلى جبهته أو موقعه ويتم إطلاق أعيرة نارية من جانبنا في الهواء باتجاه الجبهة الأخرى، فيرد الحوثيون بالمعدلات في الهواء أيضاً، وفي الصباح نتفاجأ بأن وسائل التواصل ومواقع الإعلام تنشر عن حدوث اشتباكات بيننا، والأمر لا يعدو عن كونه "صفاط" أو عملاً متفقاً عليه، كما قال أحد الجنود.

تساءلنا: وهل القيادة تعلم بذلك؟ قالوا هم مطلعون على كل ما يحدث، ويشجعون على ذلك، نحن مجرد جنود ننفذ الأوامر.

صديقي وزميل دراستي في الثانوية فهد صالح علي "أبو سلمان" كان يمتعنا بصوته الجميل وهو يقرأ القرآن أثناء الصلاة في مسجد القرية، أصيب قبل عام ونيف في منطقة حريب بشبوة بشظايا صاروخ أطلقته طائرة مسيّرة حوثية، وهو يتناول وجبة الغداء مع زملائه تحت إحدى الأشجار، وتسبب له بكسر في الحوض، وحتى الآن لا يستطيع الحركة أو الوقوف دون عكاز أو مساعدة أهله.
محمد فاروق وصابر محمد عبدالدايم شابان في عمر الزهور من منطقة شعب بالصبيحة وغيرهما فقدوا حياتهم في المخا أثناء الاشتباكات، ومثلهم الكثير من أبناء اليمن - شمالاً وجنوباً - ذهبوا ضحايا من أجل حرب مدبرة يُراد من خلالها تركيع اليمنيين وإيصالهم إلى حوار وتسوية لإعادة تقسيم وتمزيق البلد.

تحدثت إلى أحد الأقارب في مقيل قبل أيام، وهو يعمل جندياً في المخا تابعاً لأحد ألوية العمالقة، وسألته: هل ما زلتم غير مدركين لما يدور؟ قال : عرفنا في الفترة الأخيرة أن ما يحدث لعبة متفق عليها بين جميع الأطراف، ولكن لا نستطيع ترك أعمالنا لأننا محتاجون المرتب الشهري "الألف السعودي"، وإذا وجدنا عملاً بديلاً فسوف نترك الجبهة، وسنعود إلى أسرنا وبيوتنا.

وأضاف: معركة الحديدة كشفت لنا الكثير من الأمور التي كنا مخدوعين بها، لقد كنا على وشك السيطرة على ميناء الحديدة وطرد الحوثيين من المدينة، لكن الأوامر جاءت لنا بالانسحاب، وهددونا إذا لم ننسحب فسوف يقصفوننا بالطائرات، انسحبنا ليس إلى مواقعنا السابقة التي حررناها داخل مدينة الحديدة وإنما إلى أبعد من ذلك بكثير، إلى القرب من المخا، وتركنا خلفنا الشريط الساحلي المحرر الذي دفعنا من أجل تحريره مئات الشهداء والجرحى غنيمة للحوثيين.
وتابع: نعم لعبة، وهذا ما أدركناه مؤخرا، ولكنها الحاجة يا صديقي.

الآلاف من الفقراء من أبناء البلد حالهم مثل حال صاحبنا "أبو محمد"، محتاجون للألف الريال السعودي، لأن لديهم أسراً وأطفالاً والتزامات، وهكذا يتم استغلال الشباب وتوظيف حاجتهم في حرب لن ينتصر فيها أحد، والخاسر الوحيد فيها هو الشعب واليمن.

أما قادة الألوية، والذين أغلبهم لم يعرف العسكرة أصلاً، وهم عبارة عن معلمين وبناشر وباعة متجولين وسباكين فتسهل عملية إدارتهم عن بعد، فقد أصبحوا من الأثرياء يشترون الفلل والأراضي والسيارات الفارهة، ويملكون الحسابات في البنوك في الداخل والخارج، هؤلاء لا يريدون لهذه اللعبة السمجة أن تنتهي، كما هو حال الهوامير الكبار وتجار الحرب القذرين.

السلام الملغم!

كل هذه الكانتونات والمليشيات المتناثرة الهدف منها إضعاف الدولة، وكل هذا الفساد والخراب والتدمير ايضا يراد منه إيصال الناس إلى درجة الإحباط واليأس للقبول بمشروع السلام، وكأنهم يريدون القول لنا، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة: هل تريدون السلام؟ يرد اليمنيون: نعم نريده، كفاية حرب! فيردون علينا بطريقة أو بأخرى: عليكم القبول بمشروع الفيدرالية كحل وسط بين الأدوات المتصارعة.

وسبق أن تحدثنا وأوضحنا في المقال السابق عن خطورة مشروع الفيدرالية ذات الأقاليم المتعددة، وكيف يمكن أن يؤدي إلى تفكك الدولة إلى عدة دويلات أو كانتونات يصعب السيطرة عليها.

إذن، هل أدركتم لماذا أوجدوا الحرب وصنعوا هذا الوضع الكارثي؟ ذلك من أجل إخضاع الشعب وابتزازه. بمعنى إذا تريدون السلام فعليكم القبول بالمخطط التمزيقي، وإلا استمروا على ما أنتم عليه من كانتونات ومليشيات وفقر وجوع وفساد وخراب..

قد يقول البعض إن أيام الرئيس صالح كانت أفضل وأحسن، والرد هو أن مخطط التمزيق ابتدأ في عهده، فما حدث في الجنوب من حرب صيف 94م، وما تلاها من نهب وتخريب وتدمير للدولة، وإقصاء للناس من أعمالهم ووظائفهم، وما حدث في حروب صعدة الستة، هو البداية الحقيقية التي أوصلت البلد إلى ما هو عليه اليوم.
إذن، سيكون سلاماً ملغماً بمشروع التفتيت والتمزيق، في حال استمر  غياب المشروع الوطني المستقل.

الإعلام وتوزيع الأدوار

مثلما هو الحال في المعركة العسكرية يتم توزيع الأدوار بين الأدوات المتصارعة، يتم أيضاً توزيع الأدوار في السياسة بين الأطراف السياسية المحلية، كل واحد يؤدي دوراً مختلفاً عن الآخر، لكن الجميع في الأخير يخدمون هدفاً واحداً ومخططاً واحداً..

في الإعلام أيضاً تم دعم صحفيين وإعلاميين كثر، في الداخل والخارج، ودفع مرتبات شهرية لهم بالعملة الصعبة، وبعضهم حصل على موازنات لإنشاء وتمويل مواقع إخبارية وصحف وإنشاء قنوات فضائية وغيرها، كما تم توظيف عدد منهم في مؤسسات ووزارات الشرعية، وتدفع لهم رواتب بالدولار، وبعضهم يحصلون على هبات ودعومات شهرية خاصة من الحكومة وهكذا.
جيش من الإعلاميين والصحفيين والناشطين على مواقع التواصل، يتم توزيعهم على مختلف الأطراف والقوى المحلية، وبعضهم يشتغل بصورة مستقلة ولهم ارتباطات بالممول الرئيسي أو الكفيل أو المخرج، كل هؤلاء الذين ينشطون ويطلعون على القنوات ويدبجون الأخبار والمقالات يخدمون أيضاً المخطط نفسه، يمارسون الخداع والتضليل على الناس باسم الجمهورية والوحدة والتحرير  والاستقلال الناجز ومحاربة الفساد، بهدف التغطية على تمرير مخطط التفتيت والتمزيق، الذي لا يتحدثون عنه ولا يمكن حتى يشيرون إليه مجرد إشارة، بعضهم أيضاً يتجرأون لتقديم كلمات الشكر على ما وصلت إليه البلد، شكرا زعطان، شكرا فلتان.
على ماذا الشكر؟! على أنه أصبح لديكم مرتبات بالعملة الصعبة وأصبحتم أدوات رخيصة؟! الشعب لم يخولكم بتقديم الشكر لأحد نيابة عنه، ولا يرغب بذلك، وهو في ظل هذه الظروف والأوضاع المأساوية.

إذن، الشعب هو المستهدف الوحيد مما يحدث، حيث يعملون أيضاً على إثارة الفتن بين الناس، يحرضون الشماليين على الجنوبيين، ويحرضون الجنوبيين على الشماليين، ويحرضون الشماليين على بعضهم، والجنوبيين على بعضهم أيضاً، خدمة لمخطط التفتيت والتمزيق الذي لن يبقي لنا جنوباً ولا شمالاً.

ما الذي ينبغي أن يكون؟

الحل الوحيد الذي سيفشل مخطط التمزيق هو تماسك الشعب وقبوله بالتعايش مع بعضه البعض، ورفضه لكل مشاريع التحريض وإذكاء الصراعات وإشعال الفتن في المجتمع. صمود الشعب كفيل بإفشال المخطط وإسقاطه، تماسك الشعب في الجنوب وفي الشمال هو ما يقلقهم حقاً، ورفضه للوضع القائم هو البداية الحقيقية لإحداث التغيير وتصحيح الأوضاع، وهناك طرق كثيرة للوصول إلى ذلك. وقبل كل شيء، فإن مهمة توعية الناس بما يحدث، وبحجم المخطط وأدواته واللاعبين فيه، مهمة جداً، حتى لا يستمر الخداع أو ينخدعون مستقبلاً.
الوعي الحقيقي هو بداية الخلاص الحقيقي للناس جنوباً وشمالاً..

 

رئيس مركز مسارات للاستراتيجيا والإعلام