قبل عامين كتبت سلسلة مقالات للصحافة المحلية عن تاريخ علاقة حضرموت السياسية بكلٍّ من عدن وصنعاء بعنوان (حضرموت البعد الثالث)، وكانت عناوين المقالات الستة من كلمات الشاعر الكبير حسين ابوبكر المحضار رحمه الله.
من يقرأ للمحضار أو يستمع لأغنياته الخالدة، يجد فيها العاطفة المشحونة بحب اليمن والهيام في كل شبر من أرضه، دون اعتبار لجهات أو حدود. وهكذا هو الفن والأدب، تعبير صادق عن قيم إنسانية وعلاقات اجتماعية، والأغنية السياسية عند المحضار تُعلي من قيمة الإنسان وكرامته واعتزازه بالوطن، أكثر منها موقف سياسي من حاكم أو حكومة.
وفي رائعة (يا حداة المطايا) سكب كل مشاعره نحو الوطن بفلسفته الفريدة في تجريد الحب والولاء عن كل اعتبارات السياسة ونظم الحكم وكنه الحاكمين:
عشت فيها وآمل بالله طول البقاء فيها
وانت إن باتصفيها صَفْ وإن باتخمجها
يحمني ذي حمى يوسف من خوانه ويحميها
ما سوى الله حامي
وحضرموت كغيرها من أقاليم اليمن وجنوب الجزيرة قسّمتها صراعات السلطة والنفوذ التي أذكتها التدخلات الخارجية في تاريخها الحديث والمعاصر، لكنها انخرطت مع غيرها من النواحي والجهات في سياق نضالي ملتحم مع كل جغرافيا الجوار الإقليمي، عنوانه التحرير والاستقلال والوحدة، وهكذا قامت الدولة الموحدة في جنوب اليمن ثم دولة وحدة الشطرين بنسختها القائمة اليوم، وكان لأبناء حضرموت الإسهام الأكبر سياسياً في وحدة الجنوب ثم وحدة الشطرين لاحقاً، بل كانوا من قيادات العمل الوطني ورموزه الفكرية في كل التيارات السياسية القومية على مختلف مشاربها الأيديولوجية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ولايزال للحضارم دور ومساهمة متميزة وبناءة في تحديد هوية الدولة ومستقبل اليمن.
كان الحضارم زعماء وقادةً في المشروع الوطني اليمني، وكانت حضرموت شريكاً رئيسياً تظلل اليمنيين - جنوبا وشمالاً - واليمن ناقصة من دونه.
ما دعا لهذه المقدمة الطويلة عن دور حضرموت ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، نيران صديقة يطلقها البعض بين حين وآخر للتقليل من دور حضرموت والحضارم عندما لا يروق لهم هذا التوجه السياسي أو ذاك المخالف لمذهبهم الجديد، المتمسك بالخط الوطني العام الذي اختطه كل ثوار وأحرار اليمن جنوباً وشمالاً لجيلين وأكثر، مشروع التحرر والاستقلال مشروع اليمن الديمقراطي الموحد.
لقد طالعنا الصديق العزيز النائب الدكتور عيدروس نصر ناصر النقيب، بمقالة مطولة عن الكائنات الحضرمية الطفيلية حد وصفه "الطفيليات التي تقتات على فتات موائد محتليها وتلعق أسنانهم كما تلعق الطفيليات أسنان التماسيح" لقد كرر مصطلح "الكائنات الطفيلية" في مقالته "كحالة مرضية" و"عبيداً وخداماً للغزاة" وحماة لمصالح القوات الغازية المحتلة "الشقيقة"، مندداً بالحراك الحضرمي الذي يعكر صفو مياه القضية الجنوب عربية. فدعوة "استقلال حضرموت" حالة مرضية، ورجالها لم يتعلموا من "تجارب من سبقهم" في لغة تهديد غريبة ومتشنجة.
صديقي العزيز إن من وصفت اصطفافهم مع دعوات رئيس حلف حضرموت ومؤتمر حضرموت الجامع "شريككم" في الحكومة، هم قادة حضرموت اليوم ورجالها وليس طفيليات او عبيداُ أو خدماً مستأجرين. هم رجال حضرموت وعلى أرض حضرموت يصنعون لوحة اصطفافهم "قيادات السلطة المحلية والعسكرية والأمنية العليا وقادة الأحزاب والمكونات الاجتماعية، زملاء لكم في المكتب السياسي واللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني واللجنة الدائمة للمؤتمر الشعبي العام ومجلسي النواب والشورى اليمني والحكومة، بل وهيئات المجلس الإنتقالي الجنوبي.
إذا كان هذا الاصطفاف العريض من رجالات حضرموت في كلٍّ من المكلا وسيئون "طفيليات" في نظركم، فمن هم رجال حضرموت إذاً. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يزدري فيها الصديق النائب حضرموت وأبناءها، ولم تكن دعوة الاستقلال من فجرت "يراعه" فقد سبق للزميل الدكتور أن خص الزميلين العزيزين (دولة الدكتور احمد بن دغر والأخ صلاح باتيس) بمقالين لراس كلٍّ منهما. والذي يعرف المتابعين للشأن السياسي في اليمن موقفهما من دعوات الاستقلال أو تقسيم اليمن وموقفهما الصلب مع دولة يمنية اتحادية.
فالحضارم - بنظره - طفيليون في المشروع السياسي الوطني، مناضلون في مشروع الجنوب العربي. وهذا التفكير الإقصائي والسلوك المتعالي المصادر لرأي الآخر، هو ما ترفضه حضرموت السلام والتسامح، حضرموت المتصالحة مع نفسها، المنسجمة مع محيطها، المعتزة بشخصيتها الرائدة في إدارة الدولة وقيادة العمل الوطني، المتميزة في العمل المدني، المتفوقة في الريادة الاقتصادية والتنموية. الملهمة لقيم التسامح والتصالح والسلام.
وفي ظل معركة اليمنيين جميعاً مع المليشيات الإنقلابية الإرهابية من أجل استعادة دولتهم المخطوفة، لا يمكن لهم إلا احترام بعضهم وتضميد جراحهم ورص صفوفهم بعيداً عن ازدراء الرأي أو إرهاب الكلمة.. فالحضارم الذين يطالبون الآخرين بعدم التدخل في شئونهم المحلية أو مصادرة قرارهم على أرضهم، هم أيضا ملتزمون على المستوى الوطني بمشروع الدولة الوطنية التي سعى إليها ثوار سبتمبر وأكتوبر بمضامين حديثة تستلهم تجارب العصر وجديد علم الإدارة ونواميس العلاقات الدولية.
وختاماً يمكن القول، لكل من يظن أن الصوت العالي واللغة الهجومية يمكن أن ترهب الناس، إن حضرموت ومن خلال التجارب التي مرت بها خلال العقود الماضية وما دفعته من أثمان وقدمته من تضحيات، صار لديها مناعة من الإنخداع بالشعارات الأيديولوجية والانسياق خلف الشعارات البراقة او الفزعات المصنوعة بعناية، كما أنها غير مستعدة لقبول الوصاية أو الخنوع في مربع التبعية، بل راكمت من الخبرات والكوادر والإمكانات ما يجعلها مؤهلة لقيادة دفة السفينة وتوجيه البوصلة نحو مشروع وطني عنوانه التنمية والإستقرار.