آخر تحديث :الثلاثاء-07 مايو 2024-02:59ص

جينالوجيا النكسة الحضارية..هواجس في ذكرى ثورة اكتوبر

السبت - 15 أكتوبر 2022 - الساعة 03:03 ص

مصطفى ناجي
بقلم: مصطفى ناجي
- ارشيف الكاتب


في ذكرى ثورة 14 أكتوبر المجيدة، هذا الحدث العظيم، لا أريد أن أكتب بطريقة انشائية ولا أحب التكرار.  
وأمام حالة التنكر لجهود وتضحيات الآباء والعداء لجوهر ثورة أكتوبر، وتوءمتها بثورة 26 سبتمبر والانتكاسة التاريخية التي يتعرض لها الشعب اليمني، أجدني بحاجة على قراءة هذا الحدث الثوري سيوسيولوجياً أكثر من أي لحظة أخرى حتى تتضح أوجه الكرامة في هذه الثورة ووجها الناصع والتحديات التي واجهتها وكيف انثنت الأحلام. 
تشكّل ثورة الـ 14 أكتوبر منعطفاً تاريخياً في حياة اليمنيين جمعاء. بدأ أثرها يظهر في أبناء محافظات الجنوب والشرق؛ استعادة زمام الأمور وصنع التاريخ، تكوين كيان سياسي موحد بعد سبات تاريخي لقرابة أربعة قرون، خلق سردية وطنية ووحدوية، بناء جهاز دولة حديث في منطقة، عدا عدن الانجليزية وليس عدن العربية اليمنية، ظلت علاقاتها بالعالم محدودة وبالتقنية مقتصرة.

لكن أهم التغييرات هي التغيير الاجتماعي. قفز حصان الثورة نحو خطاب يساري جذري لا يقل جذرية عن التحديات الاجتماعية: تمزق النسيج الاجتماعي، تراتبية طبقية بغيضة، قداسة دينية لمجاميع تشدد على انها وافدة مقابل تكديح وسحق لبقية الناس على غرار نظام الطبقات والفئات في الهند، عصبية قبلية معيقة للفرد والمجتمع، وقبورية دينية ظلامية. 
لم يكن الحال أفضل في شمال اليمن، ولهذا فإن عظمة الفتح الثوري في ثورتي سبتمبر واكتوبر لا تقارن بشيء. 
هناك اقتران لهاتين الثورتين وان كانت الاسبقية التاريخية لسبتمبر فأن اكتوبر فعل تكاملي بامتياز لا يمكن فصله هذا لان رواد سبتمبر من ابناء الجنوب كانوا نواة أكتوبر. ناضل وقاتل الجنوبيون لإنجاح ثورة سبتمبر ورفدوا الثوار بالمال والسلاح والرجال لإدراكهم لحركة التاريخ وارتداد النصر الشمالي جنوباً. وهذا ما تم بالفعل. بعد أزيلت دويلة الإمامة تحركت قوى الجنوب واعادت ترتيب صفوفها في فعلها الثوري لمقارعة بريطانيا العظمى عسكرياً.    

طغت سردية مركزية تمنح إحدى الثورتين فضلاً على الأخرى او أحساساً أمومياً. لكن أحداث التاريخ تفصل بحسم في هذه المركزية وترد الأمور إلى سياق تاريخي ووعي ثوري واغتنام  فرص وتسخير القدر وهمة الرجال. وهذا ما يحاول خصوم وكارهو هاتين الثورتين طمسه. 
ولأن التحديات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية أمام ثورة أكتوبر كبيرة فإن خصومها سيكونون كثر بلا شك.
أولاً، ثورة أكتوبر هي الثورة المسلحة الوحيدة التي واجهتها بريطانيا في مستعمراتها ولم تتوان في استخدام أحدث أسلحتها وطائرتها الحربية لقصف الثوار ومحاولة اخضاعهم. وانتهى بها الأمر بالخضوع والخروج من جنوب اليمن بعد ان كانت عدن في أخر عشر سنوات من الاحتلال الإنجليزي أكبر قاعدة بريطانية عسكرية في الشرق الاوسط وآسيا.

ثانياً، انفجار الثورة في الجنوب من جبال ردفان بعد عام من انفجار ثورة سبتمبر أعاق بريطانيا في دعمها للملكيين لأنها انشغلت بجبهة لم تكن تتحسب لحجمها وأثرها. وبهذا، فإن ثورة سبتمبر - وان كانت سابقة لأكتوبر-، انها مدينة لأكتوبر بمشاغلتها للإنجليز وتكبيدهم خسائر كبيرة.

ثالثاً، قضت ثورة أكتوبر على أخطر مشروع تمزيقي إرادت بريطانيا تمريره في آخر  مراحلها وهو اختلاق الجنوب العربي كهوية سياسية تجميعية مغايرة لحركة التاريخ والمجتمع في جنوب غرب الجزيرة او استزراع هوية عدنية استعلائية على اليمنيين كافة.      

والثورة إذ تمضي في مسارها سترتكب الكثير من الزلات والأخطاء؛ طيش ورعونة، عنف وارتهان خارجي، تقلب مزاج ثوري ورطانة ايديولوجية أكبر من الواقع، صعوبة في الاندماج اقليمياً. 
لكن هذا السجل من الأخطاء والفشل لا يغيّب على الاطلاق المكاسب التي تحققت، سياسياً أو اجتماعياً أو إنكار المشاريع التنموية التي تحققت في البلاد.
مشروع محو الأمية، حركة ابتعاث كبيرة إلى الخارج، زيادة في الطرقات والمدارس والمشافي، مشروع تمكين المرأة، الحريات الاجتماعية والشخصية.

هل ينبغي التذكير بأن دولة الجنوب دخلت في الوحدة الاندماجية وفيها أكثر من 2000 مؤسسة إنتاجية (مصانع ومعامل صفيت وخوصصت بسعر التراب)، بيروقراطية حديثة نسبياً، فساد إداري أقل وغياب شبه تام للتفاوت الطبقي، ومكانة للمدينة والحس المدني.

كانت عجلت الثورة تتحرك في حقول ملغومة محلياً واقليمياً ودولياً. وكان رجال الثورة لديهم وعي وطني ووحدوي إلى درجة المفارقة في تغذية العنف في الشمال باسم الوحدة. ولهذا، دفعوا أثمانا باهظة على شكل دورات دموية هي حصاد الجنون والطيش وغياب الخبرة والارتهان دولياً. ولكن أيضا بسبب علاقات الجوار المضطربة والعداء الايديولوجي الذي حصل على أموالٍ باذخةٍ من منابع النفط والسياسات الأمريكية في العالم وفي المنطقة.

لكن أكبر طعنة تلقتها ثورة أكتوبر التي لولاها ما وقع يمن موحد كان جوهر نضالها هي طعنة نظام ما بعد 1994. ليس لأن تلك الحرب قضت على الحزب الاشتراكي. إنما لأنها كانت على حساب كل المكتسبات السياسية والاجتماعية والاقتصادية لأبناء الجنوب في المقام الأول ولأبنا الشمال في المقام الثاني، وقصم عمود النضال المشترك في الثورتين وهو الوحدة.

جرى تجريم الجنوب لأنه شيوعي فتمهد الطريق للتطرف، وجرت ادانة سياسة الحزب الاجتماعية ففتحت الأبواب للماضي أن يعود بثيابه الكهنوتية أو القبلية والسلاطينية، قفز اليمن الموحد نحو سياسة ليبرالية بوصفات البنك الدولي فذهبت التزامات الدولة تجاه المواطنين واسلِموا لأنفسهم ليواجهوا غول الفساد وسوء إدارة الموارد والاستحواذ على الوظيفة العامة.

وبهذا، تكونت كامل عناصر وصفة العداء للوحدة من ناحية، ولكن أيضا تشكل توق للماضي الرجعي الكهنوتي العنصري مع إحياء لمشاريع بريطانيا التي لم تنجح في تمريرها بفضل ثورة أكتوبر ونقصد بذلك فكرة الهوية الطارئة للجنوب العربي . 
يتجلى هذا الارتداد في الشمال باسم الحوثية ويتجلى في الجنوب في هذه النكسة الحضارية وهدم بيروقرطية الدولة، وتمجيد القرية والقبلية والممارسات القبورية ودلالتها الاجتماعية وعداء آيديولولجي مرضي للشمال بالمطلق. وأشد من هذا شيوع الفساد على نحو غير مسبوق وتعميم الحس الثأري والانتقام من ثورة أكتوبر ونظامها ودولتها. 
وهكذا عاد اليمن بصيغة تشطيرية غير رسمية أو غير معلنة إلى نقطة الصفر ليواجه ذات التحديات التي واجهتها ثورتا سبتمبر واكتوبر. 
وليس إلا بإحياء قيم الثورة وإيضاح منابعها ودوافعها يمكن مواجهة هذا الواقع المنغلق على نفسه والشحيح بالخيارات العقلانية وإعادة الاعتبار لنضالات الإباء ومآربهم.