آخر تحديث :الأربعاء-24 أبريل 2024-02:19ص

ثورة 14 أكتوبر المجيدة 1963م.. ذكرى تتجدد في النضال ويرسمها الإبداع

الخميس - 13 أكتوبر 2022 - الساعة 01:31 م

د. امين العلياني
بقلم: د. امين العلياني
- ارشيف الكاتب


 تهل على شعب الجنوب الذكرى ال59 لثورة 14 من أكتوبر المجيدة التي انطلقت شرارتها من جبال ردفان الأبية وتكللت بالاستقلال الناجز في ال30 من نوفمبر 1967م التي كانت نهاية أعتى استعمار أجنبي بغيض.  وبعد ذلك تأسست مداميك جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية بأبعادها المدنية والسياسية والحضارية والقومية العربية الأصيلة.

ومن هنا صارت ثورة ال14 من أكتوبر المجيدة ضمير الشعب في الجنوب، وقلبه النابض وهاجس النضال المستمر، والكفاح المتجدد،  وليس هذا فحسب، بل ظلت وتظل ذاكرة الشعب المتجددة ضد أي محتل حاول أو يحاول أن يستعمر وطنه، ويستبد أرضه، ويغتصب ثروته، ويستعبد إرادته، ويحاول أن يطمس هويته، ويقيد من حرية شعبه أو ينال من كرامة وعزة وقداسة تربته الطاهرة التي سقتها سيول من دماء الشهداء والجرحى عبر مراحل من النضال والفداء والتضحية.

  وتعد ذكرى ثورة ال 14 من أكتوبر حدثاً تاريخياً وحصادا ثورياً  تتناوبه الأيام السنون ليستلهم منه الإنسان في الجنوب  معاني العزة والكرامة والحرية وفدائية التضحية واستمرار النضال والكفاح بوصفها ثوابت قارة في الوعي الجمعي يرجع إليها الشعب في محطات النضال المختلفة، ليجدد من خلالها هويته الوطنية، واستعادة كيانه السياسي وتقييم ما اعترى تلك السياسات المصيرية من متغيرات.

  كما كانت ثورة ال14 من أكتوبر المجيدة  منجزا حضاريا وفكريا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا أسدلت على نواحي الحياة روح التمدن، ورفاهية العيش، وترسيخ مفاهيم المواطنة والحرية والكرامة والتعايش والسلام والمحبة وإن صابت تلك التجربة بعض من الإخفاق وموجة من الصراعات.
      
     وعلى وفق هذا لم تكن ثورة 14 من أكتوبر المجيدة مجرد نضال يتجدد وتاريخ يتكرر بل صارت رؤية إبداعية تشكل آفاق الوطن وتجسد مكتسباته مكانا وزمانا. وعلى تلك الرؤية نجد الشعر يحتضن الثورة هدفا ونضالا وكفاحا بوصفه إبداعا فنياً يوثق  الزمنية التاريخية للثورة، ويعزز من هوية الثائر الذي يناهض الظلم وينير دربه، بهدف الخلاص والتحرر من ربق التهميش والإذلال والخنوع والاستبداد والاستعباد ويسير به إلى آفاق الحرية والوطن والانتماء إليه.  

   وعلى تلك الغاية جاء الشعر مصاحبا ومساندا لمسيرة الثورة الأكتوبرية بوصفها منجزا حضاريا أسس الشعب على ضوئها عهدا جديدا يفصل بين حياتين: حياة الجهل والفقر والتمزق والاستبداد التي يمثلها المحتل. وحياة  العلم والعيش الكريم والقوة والحرية والعدالة والمساواة  التي يمثلها الاستقلال بولادة الدولة الجنوبية كاملة السيادة ونظامها السياسي وحراكها العلمي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي . وبهذا  كان الشاعر في ثورة  الجنوب الأكتوبرية حاضرا فكريا وسياسيا بقصائده، وفاعلا ثوريا في كفاحه ونضاله ومبشرا وطنيا  في مجابهة قوى الطغيان والاحتلال، وتحقيق مسارات الاستقلال وتطلعات الشعب.

كما جاء صوته ومن خلال منجزه الشعري الإبداعي في مسيرة الثورة الاكتوبرية هادرا ينطلق كالحمم والقذائف الخارقة، ويرعد بأصدق المشاعر وأروع المضامين الوطنية والقومية التي خلدها التاريخ، وجسدها في مرحلة عظيمة من مراحل النضال ضد الوجود الأجنبي.  ومن هنا نجد العديد من القصائد العظيمة العابقة بروح النضال والثورة والكفاح التي عبرت أصدق تعبير عن المشاعر النبيلة التي كانت تنبض بحب الوطن والنضال من أجله.

   وها هو الشاعر عبده عثمان الذي جسد شرارة الثورة وانطلاق بداياتها من جبال ردفان الأبية واصفا ردفان الأبية بصورة شمس مشعة تحتضن النور الذي يزيح استار الظلام من جهة، وتصبح قممها العالية التي احتضنت انطلاق الشرارة ماثلة في هيئة راية خضراء معبرة عن الحرية التي تمهد لروح التغيير من جهة أخرى. وهذا الصوت الذي حققته شرارة الكفاح المسلح من جبال ردفان الأبية هو روح من ذلك الربيع التحرري الذي تجسد في بعض البلدان العربية، وبات مهاد ثورة تحرير جنوبنا الحبيب، يقول:
كانت الساعة لا أدري
ولكن..
من بعيد شدني صوت المآذن
ذهل الصمت تداعت في جدار الليل ظلمة
وتمطى في دمائي حب شعب
وأطلت عشرات الأحرف الحمراء.. أسراب القوافي
مد بحر لا يحدُّ
قاعه قلب ووجد
صب فيه من زوايا الأمس حقد
أبدا لو تستريح
لم أسألها.. لم أقل من اي غاب قد أتيت
اي أنفاس حملت
ما على ردفان يجري
إن إخواني وأهلي
أذرع تحتضن النور وأرواح تصلي
في طريق الراية الخضراء والشمس الأسيرة
وربيع ذات يوم، كان في شبه الجزيرة
ترضع الدنيا شذاه وعبيره.

   ويرى القرشي عبدالرحيم سلام أن المكان الذي احتضن بداية الثورة ويقصد به هنا ردفان التي زأرت بصوت الكفاح فهي لا تكون محل انطلاق ثورة واحدة فقط، بل ستكون هي بركان متوهج لإشعال ثورات جديدة ومتجددة  في مراحل التاريخ الحديث والمعاصر ليس لشيء إلا لأن أبطال هذا المكان قد امتلكوا الحرية، وتشربت بها أرواحهم التي تشتاق إلى الرحيل لتفدي به تراب الوطن وتروي آفاقه، بحيث يصبح هذا الفداء من منظور الحرية لديهم هو الوحيد الذي يمحو جريمة فعل الاحتلال،  ويعيد للشعب حياته الكريمة، وحريته المسلوبة يقول:
ردفان قعر جحيم للغزاة، 
صحت 
بالثأر تزأر 
والثوار تستبق
تمحو جرائمهم من قرين تربتها
ويعيد للشعب قسراً كل ما سرقوا
بلادي حرة.

 وهذا التوجه الذي أقر به القرشي عبد الرحيم سلام حول ربط أثر المكان في إنتاج التجربة النضالية بحيث يصبح هذا المكان مشعاً في إنتاج تجارب نضالية جديدة تصنع الوجود الوطني المأمول وتكسر قيود التخاذل لتكتب بدمائها المصير الناجز في استعادة الوطن المسلوب هو القول الذي جعله شاعر المحروسة عبد الله هادي سبيت بمثابة اعترافات جسدتها لغة الإشارة المكانية (هنا) التي ارتبطت بمكان الثورة وجسدت نسقية التماهي بين الذات والمكان حتى غدا المكان (ردفان) هو الذات الشاعرة التي أخذت مسارا تدريجيا من الاحتواء بدء من العقل واللب ومن ثم الروح والقلب على وصف تحديد المجتمع الاول للذات والمقصود به الفرد وبعدها سار بالاحتواء مسار المجتمع (كوخي، أهلي، صحبي)  ليستقر به في النهاية في فضاء الوطن (وطني الكبير وكل حبي) ومن هنا جاء التفسير بعد التحديد على وصف أن ذهاب الجدود (الإنسان)في صنع الوطن(المكان) عبر ثوابت الكفاح ومحددات النضال، بهذا يصبح المكان (الوطن) هو الوجود القار والثابت من وراء الكفاح، ويرى أنه عندما يتحقق إثبات الوجود فإنه بالإمكان انتاج الحرية من خلال كسر القيود وهذه هي المصائر الحقة والمشروعة في مسبار الكفاح والنضال: 
هنا ردفان من عقلي ولبي
هنا ردفان من روحي وقلبي
هنا كوخي هنا أهلي وصحبي
هنا وطني الكبير وكل حبي
هنا ذهبت جدودي
لتصنع لي وجودي
وتكسر بي قيودي
وتكتب بالدماء خير المصاير

   وكانت لحج قد تشربت وعي الكفاح  من الريف إلى المدينة على مسار متساوٍ كما يرى شاعر المحروسة (سبيت) الذي زأر بصوت الكفاح،  ورآه سلاح القوة في مواجهة الاحتلال ومحاربته، ويرى أنه  لا سلاح غيره، يقول: 
ياشاكي السلاح شوف الفجر لاح=حط يدك على المدفع زمان الذل راح
هذا الغير سيد وحنا له عبيد=يامن مات والله انه من القهر استراح
هذا الما سال هذا الغصن مال=هذا الزهر يتنسم على ضوء الصباح
ارضي والنبي ويل الاجنبي=ديني او مذهبي يامرني ان احمل السلاح
يدك يا اخي يدك يا سنجي=كم لك على جسمي وجسمك من جراح
ايمانك سلاح ضامن بالنجاح=لاتحيا على الايام مقصوص الجناح
ان صاح النفير كم حر الضمير=بايمشي مع الموكب على اذلاق الرماح
باتلقا السما في لون الدما=يوم الدم يطير ملا هذه البطاح
يالله ياشباب آن الاكتتاب=ارضك ملك لك والمغتصب لازم يزاح
يالله لا الامام بانحمي السلام=يالله نشعل الثوره كفى من قول اح.

     وقد كان هاجس التثوير والثورة والتحرر والخلاص هو السائد في شعر لطفي جعفر أمان وليس هذا فحسب بل كان مدار كونه الشعري برمته، الذي اتخذه أسلوباً لمواجهة الظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي والضعف والخنوع المترتب عن الاستعمار الغاشم، كاشفا عن رؤيته الواعدة  فيما يمثله الاستقلال من تتويج ينير نضالات أبطال الثورة الأكتوبربة، ويتراءى الاستقلال في هذا المسار صباحاً جديداً، ونوراً مضيئاً متجلياً في وساعة الفضاء وامتداده بعد أن امتلك أجنحة، وقبَّلت الشمس الجباه، وأضاءت الحروف لأول مرة، يقول:
«على أرضنا بعد طول الكفاح
تجلى الصباح لأول مره
وطار الفضاء طليقاً رحيباً
بأجنحة النور ينساب ثره
وقبلت الشمس سمر الجباه
وقد عقدوا النصر من بعد ثوره
وغنى لنا مهرجان الزمان
بأعياد ثورتنا المستقره
واقبل يزهو ربيع الخلود
وموكب ثورتنا الضخم إثره
تزين أكليله ألف زهرة
وينشر من دمنا الحر عطره
ويرسم فوق اللواء الخفوق
حروفاً تضيء.. لأول مره».

  ويبشر لطفي أمان أن ثورة 14 أكتوبر المجيدة تحمل دلالات التجدد والاستمرارية، وعلى الشعب أن يتخذ من معانيها فواتح استلهامية لرفض أي محتل كان-  زماناً ومكاناً-  ويصبح الكفاح واجباً دينياً ووطنياً ضده لما يكرس من ثقافة مبنية على الظلم والظلاّمٍ، اجتماعياً وسياسياً وفكرياً، لاسيما بعد أن اعتنق هذا الشعب الحرية، وعرف فضاءها وصحوتها وصار بموجبها حراً، فضاء، وكياناً، وروحاً، ومجتمعاً، ووطناً، يقول:  
فضائي حر.. وطيري حر
وقلبي حر.. وشعبي حر
أجل.. قد صحونا.. لأول مرة
لنحيا الحياة.. لأول مرة
بلادي حرة.