آخر تحديث :الإثنين-06 مايو 2024-07:59م

عام أول غياب

السبت - 03 سبتمبر 2022 - الساعة 07:57 م

مصطفى ناجي
بقلم: مصطفى ناجي
- ارشيف الكاتب


 

بيومنا هذا، يكون قد مر عام أول منذ رحيل أبي إلى مثواه الأخير, عام من الغياب الأخير للحاج أحمد أو لأحمد ناجي أو لـ بن ناجي أو باختصار شديد لذلك الشخص الذي كان أبي ولم أعد أدري بماذا كنت اناديه غير ب ياخي او ربما كان يناديني بـ ياخي. 
عام من اللاعودة ومن الفقد الذي لا يتعوض والكسر الذي لا يجبر. عام من الفقد الذي لا يُدرك في أول يوم أو أول أسبوع أو أول شهر، إنما فقد يكبر مع الأيام وتُدرك فداحته مع الوقت. 
حاولت إلا أكتب شيئاً، لأن الكلمات لا تفي، ولا تفيد المراثي الجاهزة. ولأن الغياب أكبر من ان يحاط به. 
اتذكر ان صديق لي كان هو الآخر قد فقد أباه قبلها بقليل قال: تجلّد ولكن إلى حين. اعرفك واعرفني. لكن موت الأب أمر جلل. ويصل إلى القلب بعد أيام. فلا تكبح نفسك وقتها. 
قاومت وقوع خواطري في التذكر والاستذكار ومعرفة انني لن أراه ثانية. لن اراه مجدداً, لن أسلّم عليه وألمس يديه وأقترب من وجهه ورأسه. لن أنظر في عينيه وشاربه الكث وسحنته الحنطية.  
فرقتنا الغربة وباعدت بيننا الحرب. ثم حكمت الامراض حكمها فزاد البعد أكثر وأكثر وكنا نتخفف من وطأته بالتأسي باللقاء وبهاتف بعيد كلما سنحت الفرصة. 
كان ابي يتكلم كثيراً في شبابه، طليق اللسان سليم النطق عازم النبرة. كان ابي محباً للإذاعة وكان يتكلم كمذيع مخضرم رغم انه بالكاد يقرأ ولا يكتب. انما كان تاجراً حياته في البيع والشراء أو في أعمال اخرى. وله ذاكرة حادة وقلب ذي بأس وعين تنظر الى ما بعد الأفق. 
عليم بالسياسة شغوف بالتاريخ يحفظ قصائد واغان وخطب سياسية. له تحيزاته الاخلاقية والايديولوجية والسياسية. وان لم تخطئة البيئة التي كان يعيش فيها. لكنه انتصر على التشدد الديني بوعي واستنارة مذهلة وبإيمان ثابت وعبادة دؤوبة. وفعل ما استطاع في تربيتنا وخير ما فعل. لقد كان أبا لتسعة أبناء وزوجة. ومات محاطا بأحفاد كثر. 
غادر قريته باكراً كأترابه في ذلك الحين الذين كانت وجهتهم عدن بعد ان كانت وجهات آبائهم سواحل شرق افريقيا. ثم انفتح عليهم نداء الغربة الواسع نحو الخليج. وعاد الى اليمن الذي احب. 
لابي قصة اغتراب وسعي للرزق ملهمة. وله منها ذكريات كانت طرية منها المؤلم منها الطريف. 
حكى لي الكثير واراني صورة تجمعه بأخيه (عمي محمود الذي اتمنى له الصحة والعمر المديد) الذي يكبره في عدن في ستينيات القرن الماضي بينما لم يتجاوزا الخامسة عشرة يومها.  
,....
يمضي العمر في الابدان والارواح، وتقضم الامراض الكثير من النِعَم فيتحول الانسان إلى صمت ونظرة حانية او سورات غضب. 
... 
لم اعرف عن قرب كيف كانت اللحظات الاخيرة لأبي. مثلي مثل الاف وعشرات الالف وربما مئات الالاف ممن فرقتهم الحرب عن اهاليهم. كانت هلعا في صوت اختي وصبرا وتحملا في دموع امي وخوف في اخوتي واقربائنا وجيراننا. كل هذا كان يصلني بالهاتف.
ثم جاء الأمر الأخير والفراق الكبير. ليذهب أبي إلى قراراه الذي كان قد اعده منذ سنوات في قريته.
....
عشت مع ابي النصف الاول من حياتي الى هذه اللحظة. ولست اعرف كيف سيمضي ما تبقى لي من العمر وبرفقة من. 
كنت قريباً من أبي حينما كان قوياً مفتول العضلات يغص بالحركة والمرح والعزم. 
لم تكن تفصل بيننا سنوات كثيرة. فأنا ابنه البكر، وربما انجباني هو وامي في سن مبكرة. لذا ما ان وصلت الثانوية حتى كنا اشبه بأخين. انا ما دون العشرين وهو ما فوق الثلاثين. 
كيف ستكون حياتك مع أب شاب؟ لا شك انكما تتدربان على الحياة معاً. 
عشت مع ابي قرابة عشرين سنة في صنعاء وفي صنعاء القديمة. وفي سنواته الاخيرة كانت تلاحقني احلام تلك الفترة بكل ما فيها. واكثر من رأيتُ في منامي وفي منفاي كان أبي. حتى التقيته في آخر لقاء لنا في القاهرة. مات بعدها بأقل من عام. ثم انقطعت احلامي ولست أدري لأي حكمة ارادها الله او عقلي الباطن. 
....
في عام رحيله الاول استسمح لنفسي ان تعيد تقليب جزء من شريط الذاكرة.  اسمح لها ان تفعل ولكن وانا في كامل صحوي. لا اريد تفويت اي تفصيل ولكي اتحكم بسرعة ادارة الشريط. اريد ان ألمّ ما  استطعت من تفاصيله  التي في بالي لأحكي عنها لأولادي. 
وأكتب لأعبر عن شكري لأمي التي وقفت الى جوار أبي وعملت كل ما يليق به حتى آخر لحظة آملاً أن اتوفق انا واخوتي واخواتي في الإحسان اليها وتخفيف وطأة فراق رفيق دربها عليها . كما ارغب في شكر كل من وقف الى جوار اهلي في تلك اللحظات الصعبة. 
أسمح لنفسي أن اكتب هذه السطور كي تعينني على مرارة الذكرى وألمها. 
واكتب لأذكّر كل من ما يزال له أب وام على قيد الحياة ان يستغل هذه اللحظات محسنا لهما رفيقا بنفسه قريباً منهما ما استطاع. 
لأبي وابائكم النور والرحمة.