آخر تحديث :الأربعاء-24 أبريل 2024-03:42م

قبل السفر

الأربعاء - 31 أغسطس 2022 - الساعة 01:51 م

احمد الجعشاني
بقلم: احمد الجعشاني
- ارشيف الكاتب


عندما كنت أخرج في الصباح للعب امام البيت كنت لا أجد أحد من الأطفال للعب معهم  اضجر وانسحب إلى الداخل  وفي يوم قرعت باب جيران لنا وفي ذلك البيت وجدت الصحبة وجدت الألفة وجدت من هم في مثل سني  واصغر مني واكبر مني بسنوات وجدت فيه أم محمود أمرأة  لم اجد مثلها من طيبة وحنان  كانت تستقبلني في بيتها كأنني ولد من أولادها ودائما ما كانت تنادي اسمي بدل من  احمد  ياحمودي  كان بيت أم محمود هو الملاذ والمتعة التي وجدت فيها ضالتي  كنت لازلت طفلا في السابعة وهو عام دخول المدرسة ولم تكن المدرسة كما كنت اتشوق لها كان الأطفال يقفون في الطابور الصباحي  بأدب جم وصمت ملتزمين منصاعين للأوامر  حالهم من حال المدينة الصامتة الهادئة وكأنهم ورثوا طبعهم  المنكسر واللين والطيب من مدينتهم مدينة الصمت عدا أصوات الغراب المزعجة التي كانت تحلق فوق سور المدرسة  فكنت بعد العودة منها اذهب الى بيت أم محمود  الذي كان فيه مدرسة أخرى تعلمتها غير المدرسة التي نعرفها  كانت البنت حنان وهي أكبر الإناث من أم محمود  نلعب معها بعرائسها التي تصنعها من قطع القماش وعلب الكبريت والسجائر .

كانت تبهرنا بقصتها وتشرد بنا الى خيال واسع مع عرائس القماش إلا أن اللحظات التي غيرت حياتي من طفل صغير وساذج إلى طفل آخر يبحث عن المعرفة كان حين ادخل غرفة محمود الابن الأكبر من أم محمود وكان يكبرني بعشر سنوات تقريبا كان قد اكمل الثانوية العامة بينما أنا في اول ابتدائي كانت غرفته مكتبة كبيرة تجد كل كتب الدنيا فيها من قصص وروايات عربية وأجنبية ومجلات وكتب لمفكرين عرب وأجانب وصوت عبدالحليم حافظ الذي شدني إليه منذ  أول مرة اسمعه في غرفة  محمود كنت صغيرا حينها الا اني كبرت في غرفة محمود بين كل تلك الكتب والمجلات وعبدالحليم حافظ   تغيرت فيها  كثيرا في عالم جديد لم اكن اعرفه من قبل ومن سنة إلى أخرى  فلم أعد اللعب كثيرا مع حنان وعرائسها القماش  وبدأت القراءة من مكتبة محمود هي من تستهويني وتشدني اليها اكثر فأكثر .حتى جاءت مرحلة الثانويه . وأنا أكثر نضجا وفهما ولكنه فهما آخر للحياة كنت مثل الحالم الذي يعيش بين الكتب وخيالها الواسع  وليس الواقع الذي كنا فيه لأن ما تقرأه في الكتب حيوات اخرى غير حياتك انت او الواقع الذي انت منه هكذا فهمت فيما بعد عندما سألني مصطفى زميلي في الثانوية  لماذا يا احمد لا تنضم معنا في التنظيم كان سؤاله مفاجئ لي  لم أعلم أنه عضو في تنظيم  رغم صحبتي له ثلاث سنوات في الثانوية العامة تفاجأت من سؤاله  ولم اعرف شيء  عن التنظيم  إلا بعد أن شرح لي ان هناك تنظيم طليعي وتنظيم شعبي وعدة تنظيمات اخرى  وان الطلبة ينخرطون في هذه التنظيمات لأجل العمل السياسي والاستقلال وأضاف أيضا توجد لديهم منح دراسية في الخارج أو عمل إذا أردت بعد الثانوية.

وجدت أن مصطفى اكثر وعي مني وأنه يدرك الحياة وماذا يريد منها كنت صامت اتأمل وافكر حتى استوعب ماقال لي مصطفى وأعيد ترتيب نفسي  لم أعطي جواب لمصطفى وهو يلح السؤال مرة أخرى  كنت قد عدت إلى منزلنا القديم في كريتر في عدن بعد دخولي الثانوية العامة وعدن ليست اي مدينه اخرى . عدن كانت مدينتي عشقا لاينتهي ليس له حد او نهاية حين عدت إلى عدن كنت اعرف اني على موعد معها  فهي تعرف كيف تسحرني إلى عالمها كما قال عبدالله فاضل في شعره.

عدن غدت عدنا وليس سواها .

وما بعدها كل المدائن والقرى .

مثل الإماء يسرن خلف خطاها .

كنت في عدن في مدينتي مرة اخرى  الى صخب الحياة في الشارع وضجيج السيارات واصوات الباعة وخطى المارة وصوت الاذاعة وهو ينبعث من المقاهي ومحلات الكاسيت الى خطى النساء والفتيات أمام المحلات  كنت أمضي هائما لا ارى شيء في طريقي إلى البيت بعد حديثي مع مصطفى كنت مهووسا بفكرة التنظيم  وبدأت أفتش النقاب عنها  ومنهم اعضاء التنظيم هذا وأين مقراتهم  ولكني لم اكن اجرؤ على السؤال لاي احد من الطلبه ولكني اقتربت منهم أكثر  بعد امتحانات  الثانوية العامة صرت عضو في حزب الاتحاد الشعبي اخترته لان اسم الشعب هو ماشدني اليه وكنت ايضا معجب بزعيمه  وعملت معه في  الصحيفة محررا  وانشر بعض تجاربي الشعرية  كنا نلتقي في مقهى شعبي في وسط عدن  أنا ومصطفى واثنين من الزملاء  وانظم الينا مؤخرا الاستاذ اسماعيل  لم أكن أعرفه من قبل  قال عنه مصطفى انه من القيادات النقابية  كان ذو وجه اليف وشعر اسود ناعم  منسدل الى الخلف  بينما  حديثه كان منسق ولديه القدرة على إقناعك  وعقلاني بشكل مطلق  كنت معجب به وبفكره الذي بدأ يتضح لنا فيما بعد انه كان يساريا.

كنا في بعض الأحيان نجتمع في غرفة صغيرة تعلو دكان الحاج مقبل . نتناقش كثيرا و نحدد الأهداف المنصوبة لنا أثناء المظاهرات وتوزيع المنشورات بين الأوساط العمالية في عدن . في  اليوم الذي انطلقت فيه التظاهرة الشعبية تم اعتقال الكثير من الزملاء وكان اسماعيل من الذين اعتقلوا في ذلك اليوم  جاء مصطفى يخبرني عن اعتقال اسماعيل وكان قلقا جدا  وقال لي عليك ان تختفي خلال هذه الفترة قلت له اين اذهب ولن اسافر الى اي مكان حتى اطمئن على اسماعيل  ظل مصطفى يتردد علي بين الفترة والأخرى  حتى علمنا بخروج إسماعيل من السجن  بعدها قررت السفر إلى القاهرة للدراسة غادرت عدن وكان لدي احساس ان شئ كبيرا سيحدث  وأن موعده قد حان  واقترب.