آخر تحديث :الأربعاء-24 أبريل 2024-09:22م

قصة قصيرة..لا غفران لمن يقتلنا

الأحد - 14 أغسطس 2022 - الساعة 12:33 م

احمد الجعشاني
بقلم: احمد الجعشاني
- ارشيف الكاتب


كنت لا أعرف من أين أبدأ الحكاية . ولكني كنت اعرف اين انتهت .. هكذا دائما عند النهاية تكتشف حجم المعاناة التى كنت تعيشها . ولكن سأبدأ من اللحظة التي انطلقت فيه رصاصة الغدر واختارتك أنت من دون سائر الناس . رصاصة طائشة آتية من هواء الأرض وجوف السماء . وصلصة الرصاص موجودة  في كل مكان . ولا وجود للسكينة والأمان في بلد اجتاحه الحرب . ولازالت هناك بقية منهم  تغتصب الموت لاهلها . كنت أسأل نفسي دائما لماذا الموت اختارك انت . لم أكن أعرف الموت من قبل . كنت اراه شيئا عاديا حين يمس الناس . لكنه جاء فجأة ودون إنذار . مثل الصدمة التي لم يتوقعها أحد . ويالها من صدمة . نهاية لم اكن اتوقعها . هل هناك غفران لمن يقتلنا . الم يعلم انه لم يقتلها وحدها بل قتلت امة بعينها و قتلني أنا ايضا .. يالها من طريقة لقتلي . أطفأ النور الذي كان يضئ بدني . فأنا لست بشئ من دونها .. من بعدك  لا أكون أنا .. وهل للكون شئ بعدك . كنت اعتقد اني قادر على الحياة قبل ان تغادريها . كنت أرى العالم بعينك أنت . وأنت  من وهبتني الحياة . بعد ان رفضتني . لقد كفاني الله بك دون الآخرين .

عندما تكون معاق وجسد لا يستطيع الحراك . لن تأتي المعجزة في  ولد صغير عاطل عن الحركة . هكذا ولدت وهكذا وجدت نفسي . جثة هامدة لا تستطيع الحراك . ليس كل الامهات مثلك ياأمي . منذ ولدت وأنا مخلوق معوق مشوها . لكني كنت لابث بين احضانك . يمتص رحيق تديثك متشبث بالحياة. وهو لا يعلم أنه نكرة في هذا العالم المترفع . كنت منبوذ صغير  . في بلد ليس فيه مكان للمعاقين . مجتمع يتأفف من المشوهين خلقا . لا يحتاجه وليس له مكان بين الأسوياء . لو كنت غادرت هذا العالم لم ينتبه لي احد . سيقولون ارتاح وأراح . ينظرون الناس الى المعاق بالأسى . بعين الرحمة والشفقة . وهم يلوون رؤوسهم من التأفف . لكنك لا تستطيع التحكم بمشاعر الاخرين . ان نظرات الناس هي اكثر ايلاما و أذى  من الاعاقة . قد لا أستطيع أن أسرد لك حياتي كلها مع امي كيف كانت . ولكن هناك أشياء كان عليا البوح بها . ربما تصل الى كل من يطلق الرصاص وهو لا يعلم أين تسقط .

كنت لا أستطيع أن أتعلم الأشياء بنفس الطريقة التي يتعلم الآخرون بها . كانت هيا الواطئة التي حملت على عاتقها كل ذلك . هي الأم والطبيب والمعلم والمرشد .  هي من كانت تحملني بين ذراعيها وأنا صغير يتوسل ثديها . وهي من تضعني في الحمام وتغسلني من الأذى  رغم بلوغي سن الثلاثين عام . رجل ولكن أي الرجال أنا . وهي من تلبسني الثياب وتضع العطر في أكناف ثيابي . وهي من تضعني على السرير عند النوم  . اه كم كنت  عبئا ثقيلا عليك يا امي . أعرف أنها ليس شفقة ولا منة منها . كان ذلك هو الحب حب الغريزة والأمومة التى خلقها الله فيها . وليس كل الأمهات مثلك يا امي . حين رفضتني المدرسة . لأني لا أستطيع أن أتعلم بنفس الطريقة التي يتعلم بها الآخرون .ولا يمكن للنظام ان يتغير لأجلي . لكنها  أدخلتني المدرسة بعد أن رفضتني المدارس كلها . لا توجد مدارس خاصة لذوي الاحتياجات في بلد فقير يعاني . لكن باصرارها وعزمها ورجائها للمسئولين دخلت المدرسه . فكنا نذهب معا سويا ونعود سويا . وفي الطريق كانت النظرات مؤلمة وهي ترمقنا . الا نظراتك انت كانت هي من تجاملني بابتسامة منها . ليس من شيء في هذا العالم مثل امي . لولا أمي ما اكملت الطريق في هذه الحياة . لولا أمي ما استطعت المشى ولو قليلا الى دورة المياه . ولولا امي ما استطعت الجلوس على الجلوس الكرسي المتحرك . ولولا أمي ما استطعت القراءة والكتابة .  

 في اللحظات القليلة التي كنت أجلس فيها أمام البيت على كرسي متحرك . عند الأصيل تكون الشمس قد أفلت من مكانها خلف السحب المتراكمة . وانا ارى تلك النظرات من عيون الآخرين وهم يمرون من أمامي . ولا يكتثرون أو يحسون بوجودي . مثل شئ جامد ليس فيه روح . حجر من أحجار الأرض . او  عمود نور ثابتة أو سيارة متوقفة أمام منزل . حينها كانت تتملكني الشفقة على نفسي . والرغبة في البكاء كنت أريد أن أصرخ كالمجنون . لكني اظل صامته هنا وحدي بمشاعر مؤلمة وبنبرات الحزن والأسى واحاسيسي الممزقة . لم أكن أعلم أني خارج نسيج هذا العالم . ولا يحق  لي  الصحبة مع الآخرين للعب معهم أو الحديث معهم . فا أنا لست مسؤولا إني خلقت بخلل عضوي ولدت به . ولست مسؤولا عنه . أي عالم هذا الذي لا يبالي ولا يكترث لشخص مقعد معوق . بحاجة الى عالم اخر . يغوص فيه يتفاعل معه ويشاركه حياته . كنت لا اجد نفسي الا في الاحلام . عالم من الخيال حياة اخرى . موجودة في مخيلتي ولكنها لا تكفي . أما العالم الحقيقي فهو منقطع عني . فأجد نفسي مقهور عاجز لا مكان لي بين الأحياء . فقدت طعم الحياة من بعدك . أني موعود اليوم مع عالم جديد من غيرك . سوف اجرب الحياة من دونك . قد يكون صراع بين أمل البقاء في هذه الحياة . أو اللحاق بك في قابل الأيام .. انتظريني ربما لم يطول انتظارك لي ..

ولا غفران لمن يقتلنا.