آخر تحديث :الجمعة-29 مارس 2024-05:01م

قراءة في كتاب ( العبودية الطوعية )

الجمعة - 05 أغسطس 2022 - الساعة 12:39 ص

د. سعيد سالم الحرباجي
بقلم: د. سعيد سالم الحرباجي
- ارشيف الكاتب



المؤلف الفرنسي :إيتيان دو لا بويسي .

مما تجدر الإشارة إليه أنَّ هذا الكتاب أُلِّف في القرن الخامس عشر ...في تلك الفترة التي كان المثقفون الأوروبيون  ينقشون في  جدار الصمت للإنفكاك من عصور القرون الوسطى , وإحداث ثغرة كي يتسلل منها النور إلى شعوبهم  التي كانت ترزح تحت نير الظلم والجبروت , والجهل , والقهر , وحكم الملوك ,,

وكان لا بويسي واحداً ممن تصدوا لذلك الواقع المؤلم , وحمل على عاتقه تنوير المجتمع لنيل حريته .

ورغم مرور حوالي سبعة قرون على إصدار هذا الكتاب الرائع والذي يتحدث عن قضية في غاية الأهمية ( ألا وهي حرية الإنسان ) إلا أنَّه لا يزال يتناغم مع واقع حالنا , وكأنه يتحدث عن أوضاعنا نحن اليوم تماماً , ويقصدنا ,  ويناجينا  , ويعيش آلامنا , ويشعر بمرارة عيشنا ...

ذلك أنَّ العبودية هي العبودية ذاتها , وأنَّ الطغيان _ وإن اختلف شكله _ يظل هو الطغيان عينه .

لذا فهذا الكتاب الجميل بحاجة إلى أن يُقرأ من قبل جميع فئات وشرائح المجتمع , علَّه يُحدث ثغرة في جدار صمتنا المخزي اليوم ,,

يتكون الكتاب من ( 262) صفحة ويحتوي على ثلاثة فصول , وخلاصة , وملاحق , وقائمة المراجع .
__________
( لا وجود للعبودية ...إلا أنها طوعية ) !!
ربما كانت تلك العبارة هي من استفزني لقراءة الكتاب بتمعن , بل ودفعتني لنسخه ورقياً حتى يتسنى لي قراءته وتلخيصه .

وهذه العبارة ربما هي من دفعت الكاتب لتأليف هذا الكتاب ..
ذلك ما يبدو واضحاً من خلال التمعن فيما قدمه في ثنايا كتابه , من خلال تساؤلاته المتكررة _ والتي لا تكاد تخلو منها صفحة مما كتب ..فهو دائما ما يتساءل : أيعقل أن يستبد فرد واحد من البشر بملايين الناس .. وله نفس الخصائص البشرية التي يمتلكها كل البشر ؟
ولكنه سرعان ما يرد على نفسه بالقول :
( إنَّ الشعب هو من يعطيه ذلك الحق , هو من يمنحه تلك المزي , هو من يقدم نفسه قرباناً لعبوديته المقيتة ..هكذا في طواعية ورضا بل ربما بمتعة واستصاغة)

فهي إذن عبودية طوعية ..ماداموا لم يقدموا أي شيءٍ يُذكر لرفضها , فهم بلا شك راغبون فيها .

هكذا تُسلم الشعوب الخرقاء رقابها لطاغية مجرم , أو ظالم سفَّاح , أو أحمق مُطاع وذلك كي يقطعها , وتقدم له كرامتها لكي يهينها , وتهديه حياتها كي يعبث بها ...دونما إصدار أدنى صوت أنين _ وإن كان خافتاً _ لرفض ذلك الواقع المؤلم , في صورة مزرية أشبه بحياة البهائم ..بل إنَّ البهائم التي تُروَّض لخدمة الإنسان.. تحاول بين الفينة والفينة أن تبدي امتعاضها ورفضها لتلك العبودية المقيتة ...فهذا حمار يرفس صاحبه في وقت من الأوقات _ رغم علمه أنه سيتعرض للعقاب المبرح _ وهذا عصفور ربما ضرب القفص بجناحيه حتى يدميها تعبيراً لرفضه لحياة الاستعباد , وهذا حيوان مفترس ربما أقدم على قتل مُروَّضه ومن يسهر على خدمته تعبيراً عن رفضه للسجن في حديقة وإن كانت جميلة مع قناعته أنَّه قد يُقتل. ..
فهذا الرفض النابع من صميم تلك الحيوانات , هو في حقيقته رفض للعبودية العفنة , وتوق للحرية المشرقة .

ومما يُؤسف له أنَّ كثيراً من الناس المشوهين يَفْقِدُونَ صفاء الذهن حتى أنّهم عاجزون عن التفكير _ مجرد تفكير _ لنيل حريتهم !!

ثم يتساءل الكاتب ويقول :
إذا كان من الطبيعي أن يطيع الشعب من يحكمه ..فمن غير الطبيعي أن ترى شعباً بأكمله يرزح  تحت حكم فرد واحد لا قوة له ولا هيبة.. إلا من خلال ما يمنحوه هم أنفسهم له .
فمن أين تأتي هذه النقيصة ؟
فهو يرى أنَّ مرد ذلك إلى نذالتهم وجبنهم وعجزهم , واستمتاعهم بتلك العبودية ,وهم أنفسهم راغبون فيها .

هكذا تعمد الشعوب التي تستسلم للعبودية إلى تقديم رقابها للقتل ...مع أن لديها الخيار في أن تعيش بحرية وكرامة , وأن ترفض حياة الاستعباد !!
هنا يفقد الإنسان طبيعته الأصلية ( أنَّه خُلِقَ حر ) ويسقط بغتة في نسيان آدميته , وكرامته , وحريته ..حتى إنه ليغدو مستحيلاً عليه أن يستيقظ مرة أخرى كي ينالها , بل يفقد ذكرى كيانه الأول, فلم يعد يفكر مجرد تفكير في ذلك , أو أن توجد لديه الرغبة في استرداد حريته , وينطفئ لديه النور حتى إنه لم يعد يرى إلا هذه الحياة البائسة , التعيسة , الذليلة التي استمرأها وفقد معها آدميته , وعزة نفسه , وكرامته.. فكانت بمثابة الملاذ الآمن بالنسبة لحياته , وكأنه إذا فارقها سيهلك .

فيا للعجب ...
أمثل هذا يستحق أن نطلق عليه  لفظة إنسان ؟
كلا كلا ...
إنَّه لم يعد كذلك .

مع  أنَّ نيل حريته لا تحتاج إلا لمجرد التفكير فيها وحسب ..
ذلك أنَّ مجرد التفكير في الحرية هو بمثابة الشرارة التي تُلقى في الهشيم .
لكنه العجز حتى عن مجرد تفكير  كهذا ..
فيا للطامة!!

ويرى الكاتب أنَّ أذى الطغيان ليس مرده إلى هيبة الطاغية نفسه, ولا بكثرة أعوانه , ولا بجبروته ...وإنما مرده الحقيقي إلى الكسل المفرط , والخمول النفسي , والعجز التام  لدى كل هذا الكم الهائل من البشر الذين يستسلمون للاغراءات على يد عصابات البلاط ..حيث يرى أولئك البائسون بريق كنوز الظالم فينظرون فاقري الأفواه إليها في ذهول ..فيجذبهم ذلك الضياء فيقتربون منه , ولا يدرون أنَّهم باتوا وسط اللهب الذي لن يتوانى عن إحراقهم !!

إنَّ الجانب الأكثر كارثية في ذلك الهرم المنخور بالسوس ...إنما هو التواطؤ المكتوم , والسكوت المشين , والطاعة العمياء لتلك الطبقات من العياسيب التي تجتهد في خدمة الظالم والمجرم والمستبد , وتمده بكل ما يريد لأذلاهم , ولإذلال بقية أفراد الشعب .

وتطرق الكاتب إلى أهم وأبرز  الوسائل الخسيسة والدنيئة التي بها يستمد الطغاة طغيانهم وجبروتهم.. والتي من أبرزها كما يرى :

تحويل قصورهم إلى مشغلٍ للطغيان ..يمارسون فيه كل أشكال العنف , والقتل , والسجن , والتعذيب ,والإذلال والإمتهان .

إلى جانب ذلك يعمدون إلى استبعاد وإقصاء ذوي الكفاءات , والقدرات , والعلماء , والمرموقين في المجتمع ..
بل ربما وصل بهم الأمر للتخلص منهم وقتلهم أو نفيهم.

وفي المقابل..  
يقدمون سفلة القوم , وأراذل الخلق , وشرار الناس, وعديمي الضمائر , وبائعي الأوطان , ويسدلون عليهم من الألقاب ما يكسوهم مهابة في قلوب الجماهير .

كما يحيطون بلاطهم بالمنافقين , والمطبلين ,
والمزايدين , والمشعوذين 
فيغدقون عليهم من أموال الشعب بغرض استخدامهم كعصي لضرب ظهور الناس , وأبواق لتخدير الشعب , وسحرة لتزييف وعي المواطنين .

كما لا يتوانى الظلمة من استخدام الدين كسلاح خطير  لتخدير الشعوب , والسيطرة عليها , وإشاعة الخرافات ,ويدعون علمهم بالغيبيات , وأنَّ لديهم قدرات خارقة فوق البشر .
فهذا فرعون يحذر شعبه من الوافد الجديد والداعية المصلح ( سيدنا موسى ) فيقول ربنا على لسان فرعون 
( إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يُظهر في الأرض الفساد ) ...
وهو هنا يغلب الحقائق راساً على عقب ..
فهو المصلح وهو الحريص على الدين , وهو حارس الملة....أما موسى فيريد نشر الفساد .
منطق عجيب ...والأعجب من ذلك أن يصغي السواد الأعظم من الشعب لمثل هكذا خطاب , وهم يعلمون بفساد فرعون , ويرون بأم أعينهم كيف يقتل الأطفال هكذا بدون جريرة , ويدعي النبوة , وأنه الرب الأعلى ...
ومع ذلك يصفق المنافقون لتلك الترهات , ويتجاوب بقية الشعب مع صوت المنافقين ..وهنا تكمن العقدة ,,

تباً للمنافقين دنيا وآخرة ..هم من يحتاجون للسوط قبل الظالم ,, 
 
وهكذا يضربون الشعب بعضه ببعض, ويدخلونه في أتون صراعات عبثية , واحتراب داخلي حتى لا يتمكنوا من مجرد التفكير في ظلم الطاغية ...لأنهم مشغولون بصراعتهم الوهمية !!

بمثل هذه الوسائل الخسيسة والدنيئة _ وعلى حين غفلة من الشعب_ يتسلل ذلك اللص الوغد خفية حتى يتربَّع كرسي السلطة, ويسيطر رويداً رويداً على رقاب الشعب وذلك من خلال إستغلال عصابة _ في بداية الأمر _  قد لا تزيد على عدد الأصابع ..حيث يستخدمهم كأدوات انطلاق لتوسيع نفوذه , فهؤلاء الخمسة أو العشرة ...تتبلور مهمتهم في السيطرة على خمسين أو مائة , وهكذا تتسع الدائرة قليلاً قليلاً ليصبح العدد ال ( 100) ( ألفاً ) ومع مرور الزمن يتحول ( 1000) إلى مليون , وينساح  المليون في أوساط الشعب ليصبح ملايين العبيد ...يتحكمون في رقاب الناس ,  ويضربون ظهورهم , ويسلبون أموالهم , ويعتدون على حقوقهم ِ..وهم محميون من قبل سيدهم , ومولى نعمتهم ..
فيا للعجب!!!

وهذا في الحقيقة ما نشاهده بأم أعيننا ونعيشه واقعاً ملموساً في حياتنا ...
ذلك إنه ما كان لظالم أن يستبد , ولا لمعتوه أن يطغى...لو لا هذا الجيش الجرار من المنافقين , وأصحاب المصالح الضيقة , والأبواق الإعلامية الناعقة صباح مساء تمجيداً , ومدحاً , وإطراءً للظالم .

هكذا يقوم مكر الطاغية لحماية عرشه المنخور بالسوس.. بواسطة أولئك المنافقين وسفلة القوم , وضعفاء النفوس , وعديمي الضمائر .

الخلاص من  الاستبداد ,,

يرى الكاتب أنَّ الخلاص من الاستبداد يستوجب قليلاً من الدبلوماسية ,  واليقظة , والشجاعة والإقدام والتحلي بالصبر ...
ذلك أنَّ كثيراً من الناس يتصف بالسذاجه فلا ينظر إلا إلى قدميه ..
فلا ذكريات لهم , ولا مشاريع , ولا آمال ولا طموحات , ولا أحلام .. مثقلون بالهموم , والكسل الناجم عن عادة العبودية المقيتة , فهم سادرون في غيَّهم كالبهائم , وقد غُشَيَ على أبصارهم بهيبة السيد  الظالم.. فأصبحوا مفتونين حتى الإفراط بخرافات كاذبة تحول دون تفكيرهم بحريتهم الطبيعية ...
لذلك فهم محتاجون لمن يسوسهم برفق , وينزع عنهم حجاب العبودية بلطف , ويدفعهم لنور الحرية بهدوء , ويأخذ بأيديهم للإنطلاق من قيود الاستبداد بتمهل ...حتى يزيل عن أعينهم غشاوة الخوف , وتنجلي عنهم ظلمة الذل والجبن  والخواء ...ليستعيدوا حريتهم الطبيعية ..

وترتكز سياسته في التخلص من الاستبداد على المقاومة بالأساليب الحضارية ...
فهو لا يرى أن يتم التخلص من الطاغية بالقوة المفرطة , ولا بقتله..

ذلك أنَّه يرى أنَّ تلك الأساليب تصب في مصلحة الظالم نفسه , فهو لا يهمه أرض ولا وطن , ولا مستقبل , وليس حريصاً على الممتلكات الخاصة والعامة , بل ربما أراحته الفوضى كثيراً , فشعاره ( أنا والطوفان من بعدي ) وهذا ما ردده أحد المجرمين بالحرف الواحد حيث قال ( سأهدم المعبد على رؤوس الكل ) ...

كما أنَّه يرى أنَّ عملية القتل ربما تخلق منه بطلاً قومياً لدى السذج من الناس , وربما استغل منافقوه هذه الثغرة ونصبوا أحد أقاربه تتوجياً لنضاله كما يعتقدون ..فسيكون أسوأ من أبيه .

لذا فهو يرى أنَّ الوعي أهم سلاح يُرفع في وجه الطاغية ..فيكفي فقط أن تبصر الناس بحقوقهم , وتردهم إلى أصلهم الطبيعي وأنهم خُلِقُوا أحراراً ,..
فهذا كفيل _ حسب رأيه _ بأنَّ يهز عرش الطاغية , فمجرد قول كلمة ( لا ) تعد بمثابة طعنة نجلاء في قلب الظالم , وهي أشد عليه من حمل السلاح .

فيوم أن يعي المواطن أنَّ قيمته ( كإنسان ) لا تقدر بثمن, وأنه يجب عليه أن يصونها ويدافع عنها , وأنه ينبغي أن يعيش حراً لأنه خُلِقَ حراً...
هنا سيندفع من تلقاء نفسه لتحطيم أغلال العبودية , والتخلص من نير الاستعباد .

وعندئذِِ تنحل عقد الخوف لدى الجماهير ..فيكفَّون عن خدمة الطاغية الظالم ..ويبدؤون بنقض العقد الإجتماعي الذي يربطهم به ...
فلا يمنحونه أصواتهم في  انتخابات ولا استفتاء , ولا أحداً من معاونية , ومنافقيه , ومرتزقته ...
بل سيعاقبونه بالتصويت لمن يحمل همومهم وطموحاتهم , ومن يحمل المعول لهدم ذلك الصنم البغيض ..

فتلك لعمري أفضل وسيلة للتخلص من المجرمين ومعاقبتهم , وهي أسهل بكثير من إراقة الدماء , وإزهاق الأرواح , وتخريب الممتلكات العامة والخاصة ...

ذلك أنَّ الظالم لن يكون شيئاً إلا بالشعب الذي يمنحه أصواته ...هكذا خدمة مجانية كي يستمر في إذلاهم ..فإذا أحجموا عن ذلك فسوف يفقد شرعيته , وتهتز مكانته , وسيتجرأ الشعب على طرده, بل وكنسه من الوجود .

ومن هنا رفع الكاتب شعار ( لا وجود للعبودية إلا أنها طوعية ) .
فكونوا مصممين على الكف عن خدمة المستبد الظالم ...وها أنتم قد أصبحتم أحراراً ...
فحين لا نعطيه ما يطلب منا ..فذلك براهن على حريتنا,,,

(  إنَّ الشعوب هي من تصنع الطغاة بنفسها ...وعليها أن تدرك كذلك  أنها هي صانعة حريتها بذاتها )

فمن غير الطبيعي , ومن غير المنطقي , ومن غير المعقول ..
أن ترى فرداً واحدا ...يتحكم في رقاب ملايين من الناس ...وهم عاجزون عن قول كلمة ( لا ) ...
فأي ذل , وأي مهانة , وأي جبن ...هذا الذي خيم على قلوب تلك الأعداد الضخمة من الناس حتى استسلمت , وذلت لمعتوه واحد ...لا يختلف عنهم في أي صفة من صفات البشر ...
اللهم أنه استخف بهم فأطاعوه !!

فيا للسخرية من ذلك الغُثاء الذي هو كغثاء السيل ,,

هكذا كانت الحرية ولا تزال عزيز. وغالية ...
وهكذا تغنى بها الاحرار قديماً وحديثاً , ولا يزالون ,,,

تذكروا مرة أخرى ..( أنَّه لا وجود للعبودية ...إلا أنَّها طوعية ) !!!