آخر تحديث :الجمعة-29 مارس 2024-12:06ص

من وحي الهجرة النبوية الشريفة ,,,

الإثنين - 01 أغسطس 2022 - الساعة 05:12 م

د. سعيد سالم الحرباجي
بقلم: د. سعيد سالم الحرباجي
- ارشيف الكاتب


ونحن نستقبل عاماً هجرياً جديداً ..
تملكني شعور لم أستطع مقاومته , وأخذتني خواطر ليس لي قدرة على  ردها , وهزتني ذكريات لم أتمالك نفسي إزائها ,,,
كل تلك المشاعر , وكل تلك الأفكار , وكل تلك الخواطر...  تدفعني دفعاً للكتابة عن حدث الهجرة , وأنا عاجز كل العجز عن مقاومتها , وصدها ...
فاستسلمت لها وأذعنت لطنطنتها , وقطعت العزم على الشروع للكتابة عن هذا الحدث الضخم ...رُغم قلة بضاعتي ,,

يا آلهي ...
ومن أنا حتى اتجرأ للكتابة عن حدث.. كحدث الهجرة ,  وعن الحديث عن رجل  ,  كمحمد عليه السلام ,,

ومع ذلك أحببت أن أتمتم , وأهذي بهذه الكلمات تعبيراً عن مدى حبي للحبيب محمد ,,

وها أنا ذا أستعين بما كتبه فطاحلة اللغة والأدب , وعلماء الشرع , ومفكرو الأمة ... لاستخلص منه شُهداً مصفى سائغاً لعشاق الحبيب المصطفى ..

أي نعم إنَّ الهجرة حدث تاريخي ضخم , دُوَّنت تفاصيله على صفحات التاريخ بأحرف من نور ...
لكنه ليس أي حدث , وليس أي رواية , وليس أي قصة عابر حصلت وفاتت ,,

ذلك أنَّ التاريخ ليتكلم بلغة أوسع من ألفاظه إذا قرأه من يقرأه على أنه بعض نواميس الوجود ,صورت فيه النفس الإنسانية , كيف اعتورت أغراضها , وكيف مدت في نسقها  ..
فهو ليس كلاماً تستقبله تقرأ فيه ..ولكنه أحوال من الوجود تعترضها فتغير عليك حسك بإلهامها , وأحلامها ..فإذا الكلمة من ورائها معنى , ومن ورائها سبب وحكمة , وإذا كل حادثة فيها إنسانيتها وإلهيتها معاً !!
وإذا التاريخ الذي تقرأه مفنن في ظاهره وفي باطنه.. يفيء عليك من ألفاظه ومعانيه بظلال هي صلتك أنت أيها الحي الموجود بأسرار ما كان موجود من قبل,,

هكذا هو حال من يقرأ التاريخ بالروح , ويكتبه كذلك بالروح ..متى ما سموت إليها رأيت فيها غير المعنى يلد معنى , ومن لا شيء تخلق شيئاً ..لأنك اتصلت بأسرار  نفسك , ومن نفسك اتصلت بأسرار فوقها , فيصبح التاريخ معك فن الوجود الإنساني , لا فن علم الناس على الذي أفاضت به الحوادث ما بين الموت والحياة ,,

في مكة كُلف محمد (ص)بتبليغ الدعوة والرسالة للعالمين , فلبث فيها ( 13)  عاماً يدعو إلى الله ,,

بدأ الإسلام برجل وامرأة وغلام ..
فأما الرجل فمحمد , وأما المرأة فخديجة , وأما الغلام فعلي ..
ثم كان أول نمو للإسلام بِحُرِِ, وعبد ..
فأما الحُر فأبوبكر , وأما العبد فبلال ...

ثم اتسع النمو قليلاً قليلاً ..ببطئ الهموم في سيرها ,وصبر الحر في تجلده ..
بدأ وكأنَّ التاريخ واقف لا يتزحزح , ضيق لا يتسع , وكان محمد أخو الشمس يطلع كلاهما كل صباح لوحده ..حتى أذن الله له  بالهجرة إلى المدينة المنورة ,,

فبدأت الدنيا تتقلل كأنما مر عليها بقدمه فحركها ..فكانت خطواته تخط في الأرض , لكن معانيها تخط في التاريخ , وكانت المسافة بين مكة والمدينة , ومعناها بين المشرق والمغرب ,,

هكذا سجل التاريخ أحداث الهجرة , وهذه هي حقيقتها...

فهي ليست تاريخاً يُقرأ , وإنما هي حياة تتجدد , وينبوع رقراقاً يتدفق , ومعين زاخر لا ينضب ,,

مكث النبي قبل هجرته في مكة ( 13 ) عاماً
يعرض الإسلام على قريش كما يُعْرَضُ الذهب على المتوحشين ..فيرونه يلمع بريقاً وشعاعاً ..ثم هم يُعْرَضُونَ عنه فلا قيمة له عندهم , ولا حاجة لهم إليه ...

فأوذي , وعُذب , وأُهين , وتجرع مرارة آلام عتاولة قريش ..
ونابذوه , وهجروه , وتآمروا عليه حتى ضاقت عليه الأرض ..
فأصيب باليتم كبيراً في قومه ...كما أصيب به من أبويه صغيراً ,,

هذا تأريخ ما قبل الهجرة في جملة معناه ..
وهو في الحقيقة لم يكن تاريخاً , بل فصلاً رائعاً من فصول الحكمة الإلهية ..بحيث لا تقرأه النفس إلا خاشعة كأنها تصلي , ولا تتدبره إلا خاضعة كأنها تتعبد ,,

ومع كل ذلك العنت , ومع كل تلك المشاق , ومع كل ذلك الجهد ...إلا أنَّ الرسول لم يعتريه اليأس , ولم يخالط نفسه الملل , ولا يتخونه العجز ..بل استمر في طريقه ثابتاً ثبات الجبال الرواسي ...

أوليست تلك أخص خصائص الإسلام ...
الثبات على الخطوة المتقدمة ..وإن لم تتقدم , وعلى الحق وإن لم يتحقق , والتبرم من الأثرة وإن شحت عليها النفوس , واحتقار الضعف وإن حكم وتسلط , ومقاومة الباطل وإن ساد وغلب .

كل تلك العوامل صنعت من الحبيب معجزة غيرت مجرى التاريخ البشري ...

تجلت ثمرات تلك المبادئ , وتلك القيم , وتلك الأخلاق بوضوح يوم أن عرض كفار قريش عروضاً مغرية جداً لعمه أبي طالب كي يُثني بها رسول الله عن مواصلة مشواره,,,

فلما عرضها عمه عليه , وظن أنه قد بدا له بداء , وأنه ربما سيخذله ...
حينها انتفض انتفاضة العُقاب , وزأر زائير الأسد ..
فقال لعمه:
(والله ياعماه لو وضعوا الشمس في يميني , والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يُظهره الله أو أهلك دونه ) .
هكذا هي النفوس العظيمة , وهكذا هي القيادة الرشيدة ,,,

ويالها من كلمات , ويالها من عبارات , ويالها من معانِِ.... تعجز السنة البُلُغاء عن وصفها , وتتعثر أفواه الفصحاء عن مجاراة بيانها ...

تصوير بليغ , دقيق,بديع ..عن استحالة تخليه عن السير في طريقه .. كاستحالة وضع الشمس في يمنه , والقمر في يساره ,,

فأي عظمة هذه العظمة , وأي أنفة تلك الأنفة , وأي عزة هذه العزة , وأي عزيمة تلك العزيمة , وأي وإصرار ذلك الإصرار ...

هنا بدأ التاريخ يطوي حِقبةً عفنة من حقباته ,   ويسجل صفحة جديدة من صفحاته , ويشرع في كتابة تاريخاً جديداً لم تعهده البشرية ..

حدث ذلك عندما قررت قريش التخلص من صاحب المشروع نفسه ...
حيث تداعت إلى اجتماع طارئٍ في دار الندوة وكان على طاولة الحوار ( *ثلاثة خيارات* ) إما قتله , وإما نفيه , وإما سجنه ..
لكن الحاضرين اجمعوا على قتله مهما كلف ذلك الأمر .
فأخذت قريش تخطط للتخلص من الرسول بتلك الطريقة الدنيئة .
وهنا تدخلت القدرة الإلهية لِتُلهمَ الحبيب بمغادرة مكة والتوجه صوب المدينة .. فتجهز الحبيب لذلك وأعد العدة , وأحكم الخِطة , واستعد للخروج بطريقة لا تخطر على بال قريش ...
وبالفعل استطاع أن ينجو من كيد المشركين وأن يصل إلى المدينة بسلام ,,

ليبدأ تاريخ جديد للإنسانية سجل هو بنفسه أحداثه , وكتب  فصوله , وحدد مساراته ..  ليكون فاصلاً بين نظامين, وبين حياتين , وبين حضارتين .. لذلك حرص المسلمون أن يَدَوَّنوا كل وقائعه بالعام الهجري ..تخليداً لهذه الذكرى العظيمة , ولكي يظل هذا الحدث حياً في نفوس المسلمين ,,