عبد الباري طاهر
شهد النصف الثاني من القرن العشرين ثلاثة أيام عظيمة في التاريخ المعاصر: الـ 26 من سبتمبر 1962، والرابع عشر من أكتوبر 1963، ويوم الــ 22 من مايو 1990. شهدت الثورات اليمنية- شأن شقيقاتها العربية- تراجعات وانكسارات، وحتى تدمير، ولكن لا شيء في التاريخ يموت.
في الذكرى الثانية والثلاثين ليوم الوحدة اليمنية، ونحن نحتفي بالعيد المجيد، لا بد وأن نقرأ أبعاد ودلالات الحدث الوطني والقومي، وأسباب وعوامل الانكسار؛ لا للعظة والاعتبار فحسب؛ وإنما أيضًا للتزود بالمعرفة، وللتحصن ضد اليأس؛ ولإدراك ومعرفة مصادر الخلل في تجربة الثورة اليمنية والوحدة.
لا يكفي إدانة أعداء الثورة، ولا الرجعية والاستعمار، على أهمية ذلك؛ فقبل ذلك وبعده أيضًا لا بد من قراءة أخطاء قادة الثورة، والممارسات السيئة التي مكنت قوى الثورة المضادة من التسيد، ووصول اليمن إلى الحالة المزلزلة.
الهوس بالحكم، والتصارع على السلطة كعب أخيل في الثورات العربية، ولن نجد استثناء. ربما اليمن هي الأكثر بؤسًا وشقاء بالصراعات الدامية، وكانت أحداث 18 أغسطس 1968 في صنعاء، و13 يناير 1986 في عدن ذروة هذه المآسي المدمرة.
التعويل على القوة، والغرام بالسلاح، وعدم الاهتمام الكافي بمعاناة الشعب وحرياتهم سبب رائس فيما وصلنا إليه.
بعد مضي ما يقرب من ثلثي قرن على قيام ثورة سبتمبر وأكتوبر، واقتراب الوحدة من الثلث، فهل يحق لنا أن نسائل أنفسنا ورفاقنا وثوارنا عن الأسباب والأخطاء التي وقعنا فيها بقصد أو بدون قصد؟
هل كان صوابًا إلغاء المدماك الأساس الذي قامت عليه ثورة سبتمبر، والرابع عشر من أكتوبر 1963 (الحريات العامة والديمقراطية، وحرية الرأي والتعبير، والحريات الصحفية، والتعددية السياسية والفكرية)، واضطهاد وقمع دعاة الحرية والتنوير، وهل الاحتكام للسلاح والقمع في مواجهة المختلف والمعارض حتى داخل الاتجاه الواحد كان صائبًا.
في الثورة السبتمبرية تسيد كبار المشايخ، وكبار الضباط المشهد، وأُقصِى ضباط الثورة، وحُرِّمت الحزبية، وتصارع الأحرار: الزبيري، النعمان، الإرياني، عثمان، راجح- مع قيادات الثورة، وجرى التضييق على الأحزاب، والتعويل فقط على الحسم العسكري على أهميته حينها، ولوحظ عدم القراءة الواقعية للحالة اليمنية، والاستناد أكثر فأكثر على جانب مراكز القوى المصرية (المشير عامر، والسادات)، والصراعات بين الاتجاهات القومية كصدى للصراع القومي: مصر، وسوريا.
الوحدة حدث عظيم من أعظم إنجازات أمتنا العربية وشعبنا اليمني في خاتمة القرن العشرين، ولكن التساؤلات حول سلامة الخطوات الأولية المؤدية للوحدة، وعوامل الانهيار، وردود الفعل المتطاولة حتى اليوم.
كان النظامان القائمان حينها نظامين شمولين، وكلاهما معادٍ للحريات العامة والديمقراطية، وحرية الراي والتعبير، وعدم احترام حقوق الإنسان. فالنظام في صنعاء يمثل القطع مع أهداف ومبادئ سبتمبر، ومتصادم مع الإرادة الشعبية العامة، أما النظام في عدن، فآتٍ من حركة تحرر وطني، وثورة وطنية غرق قادتها في صراعات كالحة، ولم تحترم أو تقبل بالمختلف، كما لم تقبل بالتصالح مع الآخر أو مع نفسها. نعم حققت هذه الحركة إنجازات مهمة في جوانب مختلفة إلا أنها أضاعتها في حمى الصراع، وكانت 13 يناير 1986 النهاية البائسة لتجربة من أزهى تجارب حركات التحرر الوطني في العالم.
يجري الحديث عن الاستفتاء، وعن الوحدة بين المؤتمر والاشتراكي إلا أن واقع الحال ما كان ليسمح بإمكان إجراء استفتاء حينها، ولو جرى الاستفتاء، لاختار الشعب- ربما- في الشطرين الوحدة؛ لأنها تعبر عن الإرادة الشعبية العامة، ومخرجًا من مأزق النظامين وصراعاتهما داخل كل شطر على حدة، وفيما بينهما من جهة أخرى، ثم إن الوحدة لم تجر بين حزبين، وإنما بين نظامين، وعلى أساس الجنوب والشمال (دمج نظامين شموليين).
تعاملت القيادة في الجنوب بقدر من المبادئ الموروثة من حركة التحرر الوطني، ومن الثورة الوطنية وقياداتها، بينما كان النظام في صنعاء الآتي من العداوة ضد الثورة اليمنية: سبتمبر، وأكتوبر، ومن التحالف مع السعودية المعادية للثورة اليمنية، والمتخوفة من قيام ديمقراطية أو تعددية سياسية أو حزبية في اليمن، أو حتى قيام كيان قوي في أي شطر من اليمن، كما حصل في عهد الشهيد إبراهيم الحمدي 1974، وهي بالتأكيد أكثر عداوة وتخوفًا من قيام كيان موحد ديمقراطي يعترف بالتعددية، ويُطِلق الحريات المعاقة والديمقراطية، وحرية الرأي والتعبير.
قطبا النظام في صنعاء: صالح، والأحمر يختلفان تكتيكًيا حول الوحدة، ولكنهما، ومعهما السعودية، يتفقون على تصفية النظام في الجنوب، واستئصال التجربة برمتها، أما في الجنوب، فالآثار الكارثية لــ 13 يناير ما تزال حاضرة، وقد جرت مشاورات داخل قيادة الحزب الاشتراكي، ومع شخصيات عامة أمثال البردوني، والدكتور أبو بكر السقاف، وداخل الحزب، وكان الرأي التريث.
كانت الخطوة الأهم هو البدء بالخطوات الممهدة للوحدة كتوحيد المناهج التعليمية، والسياسة الخارجية، والدفاع، وتوحيد بعض القوانين والتشريعات، وخلق المناخ الديمقراطي والوحدوي. اتخذ علي سالم البيض القرار ربما بشكل انفرادي، أو بالتشاور مع بعض القيادات. لم تكن الخطوة مدروسة، وكان فيها قدر من الهرولة، وحسن النية، بينما كان صالح والأحمر، ومعهما السعودية، يعدون العدة للحرب؛ ولإقصاء الجنوب، والخلاص من الجيش الجنوبي والسلاح، وهو مطلب أمريكي أيضًا.
لم تقدم الأحزاب السياسية نقدًا أو قراءة نقدية للتجربة. ربما كان الاشتراكي شبه الوحيد الذي انتقد التجربة، وكان الشهيد جار الله عمر أكثر جرأة في نقد التجربة أيضًا، ولكن نقدهما لم يكن كافيًا.
تدمير تجربة الوحدة اليمنية، وتجربة الجنوب، يأتي في سياق تدمير التجارب الثورية في المنطقة كلها، وهي الهدف الأساس للشرق الأوسط الجديد؛ حسب كتاب بيريز، أو "مكان تحت الشمس"- كتاب نتن ياهو، وقبلها لعبة الشطرنج لبريجنسكي، وعشرات الكتب والأبحاث والدراسات، وقبلها، وبعدها المؤامرات والحروب التي وفر لها استبداد الحكم العربي وفساده شروط النجاح، ولم يغب مال النفط العربي عن المعركة ضد الأمة كلها.
ثورة الربيع العربي هي البديل للنظام العربي الفاسد والمستبد. الانتفاضات المتواصلة في فلسطين منذ العام 1936؛ وحتى اليوم، وانتفاضات السودان منذ 1964؛ وحتى الآن- هي سبيل أمتنا وأداتها وعدتها للخلاص من الأنظمة المستبدة، ولمواجهة الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي الغاصب، والمؤامرة الأمريكية والاستعمارية.
هدف أمريكا والصهيونية العالمية وإسرائيل تدمير الأمة العربية وتمزيقها ونهب ثرواتها، ولن تنجو منه العربية السعودية.