آخر تحديث :الثلاثاء-07 مايو 2024-03:19م

محمد علي إبراهيم لقمان" روح متجددة

الإثنين - 28 مارس 2022 - الساعة 09:56 م

فهمي غانم
بقلم: فهمي غانم
- ارشيف الكاتب


هل نكتبْ عن محمد علي إبراهيم لقمان المثقف الاديب أو الصحفي الماهر أو المحامي المترافع عن قضايا الناس في وطنه بل الدفاع عن وطنه نفسه
إننا أمامَ ظاهرةٍ إبداعية متصلة بواقعٍ متحرك غيرِ جامد يصنعُ حوافزه من رحم معاناته فيشكّلُ عوالمه لينسجها بخيوطٍ من حرير جعلتْ من الرجل أحد أيقونات مدينته عدن وبلده اليمن ونجماً ساطعاً في منطقته والأقليم حتى أمتدَّ تأثيره إلى فضاءاتٍ اخرى ملاءها الرجلُ بكلِّ ثقة وإعتزاز وخطَّ علاقاتٍ واسعةً دفعتْ به إلى أن يكون بحق من روّاد التنوير بوطنه هكذا كانت عدن ولّادةً تصنعُ تاريخها الذي مكّنها من أن تلعب دورها التاريخي بكلِّ أريحيةٍ وسلاسةٍ ومرونة..لقد كانت المؤهلاتُ الجيوسياسية الطبيعية لعدن حافزاً لأن تكون في ملتقى الكبار الذين صنعوا أمجادهم..
إنّ الإلهامَ الفكري والقدرةَ الإبداعية لاتتولّدْ بالفراغ وتتجلّى مساهمات محمد علي لقمان من خلال كتاباته  ومواضيعه المختلفة و التي تتلّخص أهميتها في بعثِ الحوافز  وتنشيطِ المدارك وفي كيفيةِ إدارة عمليةِ التنوير والنهضة وجعلها ممكنة وفقاً للخصائص الموضوعية والذاتية لعدن القائمة على قاعدةِ الموروث المشترك ونسيجها الإنساني المتعدّد فقد تمكّنَ لقمان من إحياء المعاني الخاملة في مفاهيم  الجسمِ الإجتماعي وبعث فيها طاقة  تنويرية ضرورية  لتحريك التفاعلاتِ الداخلية فيه بما يسهم في تجديد قواه الحية وإنتفاء المشاعر السلبية وقد كانت إحدى أهم خطواته هو موقفه من تعليمِ الفتاة وقد صُدتْ فكرته أول الأمر بسيفِ العيب والتقاليد لكنه نجحَ أخيراً في إقناع ستين فتاة بضرورة التعليم ومنحهن حرية إبداء الرأي بمستقبلهن..
ضخُّ لقمان في كتاباتِه إنزيماتِ التنويرِ والإبداع كصناعةٍ ثقافيةٍ وفكرٍ رشيد يُحدِثُ من خلالها خلخلةً في مفهومِ الضررِ  الاجتماعي ليؤسسَ عوضاً عنه فعلَ الضرورةِ الإنساني إنّه يريدُ أنْ يقايضَ الإرثَ الماضوي بالمستقبل  لتحريكِ الساكن وإطلاقِ الكوامن الممكنةِ في مفاعيلِ الحياةِ داخلِ مجتمعه وتحريرها بقوّةِ الدفعِ الذاتي أولاً وإندماجها مع العوامل الموضوعيةِ الأخرى لإحداثِ الدهشة وبالتالي القدره على صياغةِ وبلورةِ مشروعٍ جاذبٍ قابلٍ للحياة..
إنَّ محمد علي لقمان يتلمّسُ عروقَ الذهب الذي يبلُورٌ فيها تجاربه على نحوٍ من الأصالةِ والمعاصرةِ والنظرةِ الباحثةِ عن مكانٍ لعدن تحتَ الشمس..
في روايةٍ له بعنوان (سعيد) 1939م يحمّل بطله سعيد بعضاً من ملامح رؤيته وأفكاره التي أراد تحقيقها وتدور معظم أحداثها بين الخيرِ والشر بين القديم والجديد وقد إستلهمَ التراثَ الشعبي كمبارز القات ومخادر الأعراس كمعادل موضوعي لتحريك الفكرة وإبرازها بشكلٍ اقوى وهي غرس قيم الحرية والعلم والحضارة والقيم الاخلاقية الاخرى وقد لجأ إلى التفاصيل الدقيقة  ولكن بتقنيات السرد القصصي والمسرحي الذي له فيهما باع كي يوسع مساحة الرؤية التي تنسجم مع طبيعةِ الأحداث وتفاصيل المشاهد.. 
إنّه في كتاباته لايصمم  إنساناً محدداً بحدودِ وتفاصيل مقيدة تعيق حركته إنّما يطوّرُ حالةً إنسانيةً دائمة قادرةٌ على التعاطي مع قيمِ الحداثة والحرية هو يحرر المفاهيم المجردة ويطلقها لتسترد عافيتها وتعمل عملها وفق ديناميكية حركية لاتؤمن بالسكون الاّ كمقابلٍ موضوعي للحركة وبذلك يكّمل لقمان الأملَ الناقص في تلك المفاهيم حتى تكتمل قوانينها الخاصة بها كما شكّلَ لقمان حضوره في واقعٍ تتقاذفه هويات مختلفة عاملاً مهماً في إعادةِ رسم  الهوّية الوطنية  على نحوٍ جعلها تتصدّر المشهد كلّه بل لقد برز في الكثير من كتاباته ودواوينه ومسرحياته كصانعٍ للأحداث وليس شاهدا عليها فقط وهذا مما اعطاه كاريزما خاصة مكًنته من الدّعو والمنادى بان تتمتع عدن  بإستقلالها  أو على الاقل إعطاءها الحكم الذاتي بعد ان لمس أنَّ هناك إتجاه يقوده المندوب السامي لضمِّ عدن إلى الإتحادِ الفيدرالي بدون إستشارةِ أهلها وبدون مرجعيتها  القانونية والسياسية والاجتماعية والوطنية ويُشهدُ للمجاهد لقمان كيف أعتلى منصة الامم المتحدة لشرح قضية بلاده وماتعانيه مستفيداً من قدراته كمحامٍ مترافع كان الرجلُ بحجمِ حزبٍّ كبير ومؤسسةٍ وطنية تنادي بسياسةِ نأي عدن عن تضاربات وتناقضات اللحظةِ الاخيرة التي يُرادُ فيها إغتصابٌ لحقها ووضعها الاعتباري الخاص بها بعد ان حاول الانجليز طمس هويتها..
كان يبحثٌ عن معالم الطريق الذي تقوده إلى أهدافه ويبحث عن رافعةٍ تكون وعاء لأفكاره فكانت صحيفتة ومؤسسته دارُ فتاة الجزيرة الصادرة في الأربعينيات من القرن الماضي الحاملَ الثقافي لوجهةِ نظره ووجهة نظر كلّ المستنيرين في اليمن كلها..
قاد إتجاهاً وطنياً وكان محلَّ إجماعٍ من كلَّ الفعالياتِ والشخصيات اليمنية وخاصة المعارضة للإنجليز والأئمة كما عُدّتْ صحيفته صوتاً للحقِّ وكان على علاقةٍ نضالية مع أقطابِ المعارضة اليمنية كالزبيري والنعمان والقائد العسكري جمال جميل الدينامو العسكري لثورة 48م..هذه كلّها إشاراتٌ إلى أهميةِ الرجل ورصيده الإيجابي على الصعيدِ الوطني والعربواصلتْ صحيفةُ  (فتاة الجزيرة)  مهمتها الوطنية ضمن خطّها التنويري وعززتْ من كتاباتِ  الأقلام المعارضة للائمة ونشر مقالاتهم المناهضة فكانت بحق قناة توصيل وإرتباط بين المعارضة والشعب وهو الأمر الذي دعا المندوبُ السامي(هيكن بوتم) إلى تنبيه لخطورةِ مايقوم به..
كان المجاهد لقمان يناورُ بالكلمات من خلال كتاباته ويفرض منطقاً غاليَ التكّلفة لكنّه عظيمُ الأثر اذ يحوّل الحروفَ الخرساء الى لغةٍ آسرة قادرةٍ على توصيلِ رسالته ويجعل منها حائطَ صدٍّ لإفكاره ومشاريعه..
إذن نحن أمام مفترقٍ ثقافي ومنعطفٍ تاريخي بين ثقافةٍ تشدّكَ إلى الماضي وتستغرقك فيه وثقافةٍ تعبر بكَ إلى المستقبل بسلاحِ العقل وتوازن العاطفة وعدمِ الإندفاع نحو المجهول بدون معرفةِ وتحليل المعلوم.. 
إنّ محمد علي إبراهيم لقمان موسوعةٌ ثقافيةٌ صاغَ لغته صياغةً عصرية راقية وأستطاعَ بمهنيته وحرفيته أن يحقنَ الواقعَ السياسي والثقافي بمهارته الكتابية المتنوعة وأن يبني عملاً مؤسسياً محترماً جمعَ فيه بين المحليةِ والفصحى وجعل منها لغةَ السهلِ الممتنع وأصبح يمثّلُ مدرسةً وخطاً واضحَ المعالم في الخارطة الثقافية والسياسية والصحفية في البلاد..
كان للقمان كتاباتٌ ومقالات إتسقَ معيارها مع تجربته وخبرته صعوداً واملاً في تحقيقِ ما يصبو إليه فهو لايقحم الكلمات في كتاباته إقحاما يفرغها من معانينها وهي من تجليات ومظاهر صحوةٍ وجدانيةٍ وذهنية للقمان فتحتْ له الآفاقَ نحوَ هدفه النبيل في زيادةِ رقعة التنوير فقدَ قادَ مبكراً جبهةً ثقافيةً لجعل الثقافة زاداً مشاعاً وإمكانيةً متاحةً للناس وليست ثقافةٌ للنخبة كما أنّها مفتاحاً لفهم مايدورُ في المجتمع من إرهاصات لإثارةِ الوعي بقضايا الساعة داخل المشهدِ السياسي والاجتماعي والثقافي لتحديد مواقف إزاها وقد كان لموضوعه (هل هذه قصاصة ورقية) التي كانت إحدى أسلحته النقدية لمواجهةِ الفساد الذي أصابَ كبدَ التعليم وانحرف باتجاهاتٍ لاتخدم الهدفَ التنويري منه وأصابه بأذىً كبير ثمّ ألحق به موضوعاً (كيف تقدّم الغربيون) وهو وإنْ كانَ بصيغةِ تساؤلٍ لكنه يحملُ أفكاراً نقدية للهيمنةِ وفرضِ ولاءاتٍ ثقافية على حسابِ الولاءِ الوطني الذي تغنّى وتلّبسَ به طوال حياته وفيه نقدٌ لإسلوبِ المحاكاةِ السلبية ونقلِ كلِّ ماهو غربي دونَ تمحيصٍ أو تحليل فالثقافةُ الغربية وعاءٌ  يحملُ مساوئها  كما يحملُ إيجابياتها وبالتالي علينا الوقوف أخلاقياً أمامَ هذا المنتوجِ القادمِ من خلفِ الحدود كي نقبله فكراً وثقافةً قابلاً للتداولِ في مجتمعنا..هو إذن ليس مقلّداً وإنما مبدعاً خلاّقاً يبصّرُ مجتمعه بقيمِ التنويرِ الحقيقية وليس المزيفة الملتبسة بقيمٍ حداثيةٍ مزيفة..
أحدتثْ كتاباتُه ثُقباً في جدارِ المستحيل سرعانَ ما أخذَ بالتوسع حتى أضحى قيمةً أخلاقيةً إنسابتْ في خلايا المجتمع العدني وحرّكتْ فيه منصّاتِ الإنطلاقِ لمحاربةِ تلكَ الجيناتِ والخلايا الخامدةِ وحالاتِ الكمونِ والإستسلامِ للعاداتِ الاجتماعية والتحرر من عقدها الضارة..إنّه عملَ على رفعِ راياتِ الثورةِ البيضاء المعمدّةِ بالعلم والمتنفسةِ رياحِ الحرية وتأكيدِ الذاتِ الوطنية وطردِ الهوائم العالقةِ بجسدِ المجتمع بفعلِ بعض النظرات التي لا تريدُ مغادرةَ نموذجها السادر في مفاصل الماضي وتقاليدِ البيئة المحنّطة عن طريق غربلته وإحياءِ وتفعيلِ الجانبِ الحيوي والتنويري والإنساني منه لصناعة المستقبل..
إن الأديبَ المثقف المحامي  محمد علي لقمان لاتستعبده فكرةُ التخلّص من العاداتِ والثقافةِ القديمة لمجرد أنّها تستهويه بل هو وعيٌ تنامى عكسَ صورةً للمعطياتِ التاريخية والتقدّمِ النسبي للعلومِ وخبرته الشخصية وعلاقاته المتعددة مع أقطاب ورموز عالمية صنعت فارقا عظيما في بلدانها من خلال رمزيتها ونضالاتها كالمهاتما غاندي وعبد العزيز الثعالبي وعبد القادر الحسيني وشكيب ارسلان وقد إستثمرها بذكاءٍ ووعي لإكسابِ دورةِ الحياة في بلاده زخماً جديداً ونوعياُ وهو الأمر الذي أثرى تجربته الشخصية واتسعتْ الآمالُ في أن تقدّم عدن نموذجها الخاص الذي حوّلها إلى منارةٍ مضيئة تشعُّ ألقاً..ونستطيع القول أنَّ كتابات الاديب والصحفي  المجاهد محمد علي أبراهيم لقمان التي تتميز بالحرفية والمهارة وحُسن سبك المعاني هي كتاباتٌ تأسركَ حروفها فتمتطيها لتعبرَ بكَ الضفةَ الأخرى حيثُ عوالمَ مختلفةٍ ومتنوّعة ومدهشة
إنّها باختصار ثقافةٌ من نوعٍ خاص لا يقدر عليها إلاّ الكبار الذين يُحدثون أثراً في دواخلنا فنشدُّ الرِحال إليهم..