آخر تحديث :الجمعة-03 مايو 2024-05:24م

الإنتحار..وواقع الشباب في زمن الحرب

الثلاثاء - 08 فبراير 2022 - الساعة 05:53 م

ماجد زايد
بقلم: ماجد زايد
- ارشيف الكاتب


قبل أن ينتحر فيصل في جامعة صنعاء، كان قد إنتحر مرات عديدة، إنتحر مع ذاته نفسيًا ومعنويًا وحياتيًا دون أن يخبر أحد، لكنه حينما شاهد يوم أمس تلك الشجرة الواقفة بشموخ مع بؤسها وحزنها قرر أن يشنق نفسه عليها للمرة الأخيرة، أنهى على ظهرها حكايته وحياته وإنتصر على كل شيء، برأس مرفوع، وضمير رجولي، وأخلاق لا بمكن حدوثها أو تجاهلها، الإنتحار بطولة وقرار ذاتي، ونجاة من وطئة الألام والخذلان والفشل المتراكم في قلوب الشباب. الإنتحار أمام الناس ليس أمرًا صعبًا أو مخيفًا للذين أرغمتهم الحياة على الموت الفعلي، هو إرادة بطولية وحرية إستثنائية وشجاعة نادرة إستحكمت ذاتها، وقرر بطلها الرحيل عن ذاته بصمت، دون أن يطلب الرثاء، أو البكاء عليه، لماذا نبكي على الأحرار؟! ونحن في مأساة تغشى حياتنا وأيامنا، ونحن نخشى ترك حياة لا قيمة لها، حياة عبثية ومملة وكارثية..

فيصل كتب إلينا أخيرًا ثم أنصرف في حال سبيله، قال في كلماته الأخيرة: ليس لي أبٌ ولا أم.. لا إلهٌ ولا وطن.. لا مهدٌ ولا كفن.. لا قبلة ولا حبيبة...لليوم الثالث لم آكل.. لا الكثير ولا القليل.. وهذا الفشل لا يكاد يتوقف أو يتأخر.. يأتي دفعة بعد دفعات قاتلة.. وأهلي هناك.. ينتظرون أن أنقذهم من حياة البائسين.. وسنواتي العشرون وحدها قوتي.. للبيع هي سنواتي.. إن لم يحتجها أيّ إنسان.. فليأخذها الشيطان.. بقلبٍ نقيٍّ سأذهب.. واذا ما اضطررت.. سأشنق حياتي.. وأذا بقيت سيمسكونني ويشنقونني.. ويهيلون التراب المبارك عليّ.. فينمو عُشبٌ قاتل.. على قلبي الحزين..

قد لا تعلمون هذا، ولكن المئات من الشباب اليمنيين قد إنتحروا بالفعل في واقعهم ونفوسهم وقراراتهم لكنهم ينتظرون إيجاد شجرة تغريهم للمغادرة، هذا واقع الشباب في زمن الحرب، زمن الخوف والإنتحار واليأس المطلق.. زمن الأوغاد وأبناءهم، زمن السفلة وتجار الحروب، لم يعد هنا سوى مقاتل ومقتول وجريح ومتطرف أو محبط ومشرد ومنتحر ويائس، هكذا صنعت بنا الحرب، وهكذا جعلتنا في ثناياها وبشاعتها. مجرد عالة تعساء يتمنون الموت للأبد.

ولا أحد يهتم..

أو يفكر بما تجني يداه..

هذه الحرب أوجعتنا كثيرًا، قهرتنا ومزقتنا ودمرت أخلاقنا وترابطنا، لقد إرتكبت في حقنا أبشع ما لا يمكن للمجرمين الكبار تخيله، لقد وصلنا للهاوية ثم تجاوزناها بسنوات، لم يعد هنالك أمل ملموس أو أحلام متواضعة أو شباب متطلعون، أو حياة في زوايا هذا الوطن المدمر والمقسم والملعون.. معظم شباب الوطن مدمرون لا يرغبون في البقاء أكثر، حتى خيار الموت صار أرحم في توقعاتهم مما تجرعوه، هذه الحكاية المكررة بالملايين أعدادها وضحاياها بالملايين والمتضامنون معها المتأثرون بها بالملايين، والمتسببون فيها يعدون بالأصابع.

رحمة الله على فيصل، حين أدرك أن شر الحياة أقوى من خيرها غادر بصمت، حزم أمتعته وأعتلى شجرة باهية وصار في سبيله، كالملائكة الأوفياء، لم يكن بحاجة للبقاء في حياة لا أحد يطيقها، ولا أحد يعرف معاناته فيها، ولا أحد يعرف ماذا يحدث له في ثناياها، غادر فقط وترك العالم يقرأ رسالته وهو يرتعش من صدمة الكلمات، من حقيقة العالم، وبشاعة المتطرفين، تركنا في ذهول، طار فوق رؤوسنا جميعا وفجر من أعلى مدينتنا ضوءًا أخفى ظلام الليل وكئابة النهار.

نهاية فيصل تقترب بشكل كبير من تصور ألير كامو عن الإنسان متجاوزاً القيم البالية، عن عدم وجود معنى للحياة، عن عدم وجود جدوى لكل ما يفعله الإنسان من عملٍ أو مجهود، كل ذلك كان سيضيع سدىً بما أن نهاية البشر في الأخير هي العودة من جديد إلى العدم أو اللاشيء. فيصل وصورة الشجرة ورسالة الوداع، أشعل في قلوبنا حماسة المضي قدمًا في طريقه، طريق الحرية والتمرد والنجاة بالذات، مع إبتسامه أبدية وحزينة لا يمكن لأيّ قوة في هذا الكون إطفاءها، ستبقى ذكراه للأبد شاهدةً على بشاعة هذا البلد، عن سوداوية النظال وصعوبة الطريق، عن الخوف في جانبي العبور، عن الوحدة والغربة وذكريات الراحلين، لن تتركنا رسالته وحزنه المهول، لن تتركنا حكايته وصورته المعلقة في رؤوسنا، لن تترك الطغاة في ملكوتهم، ستطاردهم كالروح المنتقمة كل يوم حتى تتحقق العدالة من اله عظيم، سيعرف التاريخ حقًا هؤلاء الخالدين مع أحزانهم، من قرروا الرحيل بإراداتهم، بلا مقدمات، منهزمين، معترفين، ومعتذرين للعالم من بشاعة العالم والحياة.

هؤلاء المنتحرين هم نحن، وهذا شعبنا الوحيد ينتحر بعد أن يأس من الرحيل، وعن التسول في أخر الطرقات البعيدة، بعد أن جعلوه ملقي على الأرصفة الأخيرة من الوطن المدمر محاولًا النجاة بنفسه من هذا الجحيم اللعين.. لقد هلك الناس ويئسوا من حياتهم، بينما المترزقون بموارد الوطن ورواتبه وحصص الموالين والمشمولين يدافعون عن ثوراتهم وقياداتهم، وحيواناتهم، وعن الإمام الحسين وصور الوعول وثورة الماضي بشقيها المتحاربة على السلطة والثروة والحقائب المليئة بالمال، يدافعون عن مصدرهم الوحيد للسلطة والمستحقات، والشعب حمل ذاته وذهب للبحث عن شجرة أخيرة ترسله صوب السماء، بينما المتحاربون على السلطة في ذات التوقت يتقاسمون الموارد والرواتب والثروات المكدسة لأنفسهم وقطيعهم فقط والشعب بمفرده يموت عند حواجز المغادرين، يموت أو يغادر للأبد.

عليك السلام يا رفيق الحزن والألام، في سبيل الخالدين يا أخر الأحرار. كن بسلام عند اله السلام في جنان الخالدين، لك الجنة أيها الشجاع، ولهم الجحيم، عليك السلام وعلى إبتسامتك الحزينة السلام، وعلى عنفوانك وقلبك السلام ولروحك مني الف قبلة وسلام.

ماجد زايد