آخر تحديث :الأحد-05 مايو 2024-12:56م

البنية العسكرية والسياسية والاجتماعية في يافع … بين الماضي والحاضر والمستقبل

الجمعة - 20 أغسطس 2021 - الساعة 06:52 م

د. عارف الكلدي
بقلم: د. عارف الكلدي
- ارشيف الكاتب


في هذه السنين الأخيرة تمر يافع بربكة غير عادية، وتشهد بداية تنافس ينطلق من الماضي لا يستوعب الحاضر ولا يتطلع إلى المستقبل بالدرجة المطلوبة، وما يشاهده أبناؤها ولا سيما حلماؤها وما يشاهده الآخرون منها كله شاهد على هذه الربكة، مع الإشادة بروح تعاونية منقطعة النظير بدأت تشهدها يافع في الجانب التنموي المعتمد على الذات.

سنحاول في هذا المقال تفسير هذه الربكة باستخدام المنهج التاريخي والاجتماعي والنفسي، ولا يدعي المقال الحق المطلق ولكنه وجهة نظر، ومساهمة في تصحيح التصورات نحو إيجاد الحلول.

سنترك يافع في التاريخ القديم قبل بعثة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ونتركها أيضا في التاريخ الوسيط، وفي هذين العصرين الطويلين كانت يافع جزء من دولة بحسب تعاقب الدول قبل البعثة وبعدها.

سنتحدث عن يافع في تاريخها الحديث عسكريا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، وهو التاريخ الذي بدأت بذرته بسبب الصراع مع الدولة الزيدية القاسمية، ومن هذا الصراع تشكلت بنية المجتمع اليافعي العسكرية والسياسية والاجتماعية.

احتلت الدولة الزيدية يافع، وكانت هذه الدولة غريبة على النفسية اليافعية دينيا وسياسيا واجتماعيا، فهي تختلف عن الدول السنية التي حكمت اليمن ابتداء من دولة النبوة والخلافة الراشدة مرورا بالدول الملكية التي كان آخرها الدولة العثمانية التي رحلت من اليمن بسبب مقاومة الدولة الزيدية لها.

الدولة الزيدية دولة شيعية تعتقد بتميز وسيادة آل الحسن والحسين وأنهم يملكون وصية إلهية وأن الناس تبع لهم. ولهذا فإنها بطبعها السلالي والكهنوتي لابد أن تمارس الإذلال والقهر ومحاولة التركيع والإهانة وهو ما حصل في يافع مثلما حصل في سائر أنحاء اليمن.

لم ترض يافع بهذا الحكم (لا تزال عبارة "حكم زيدي" لها دلالتها في المجتمع اليافعي). ولهذا تداعى رجال يافع وتعاهدوا على المقاومة، وهذه المقاومة هي التي أفرزت القيادة وميزت بين الناس.

لم تكن الحرب خاطفة بل حربا وجودية ذاق فيها الناس العلقم استمرت أكثر من ثماني سنوات في جبال يافع، وحوالي أربعين سنة في حدود يافع انضمت إلى يافع فيها سائر القبائل المجاورة وكان مسرحها بعد تحرير يافع بلاد البيضاء التي لا يقل دورها في المقاومة عن دور يافع.

شعرت يافع بأهمية الدولة للحفاظ على النصر وكضرورة قصوى للدفاع عن الذات أمام هاجس الدولة الزيدية القوية المجاورة لهم التي لا تنفك عن مهاجمتهم، وأكاد أجزم من معرفتي بالنفسية اليافعية لو أن يافع في ذاك الوقت كانت تعرف وتدرك معاني الدستور والقوانين والانتخابات والتداول السلمي للسلطة والإدارة لما ترددت في اعتمادها، لأن هذا النظام هو الذي يناسبهم، لكنهم لم يجدوا أمامهم غير الأنظمة الوراثية ونظام دولة الأئمة الزيدية.

رغم اندحار الدولة الزيدية القاسمية أمام مقاومة يافع وأعوانها إلا أنه كان لثقافة الدولة الزيدية الطبقية أثرها في بناء الدولة اليافعية. 

يافع كلها من عنصر واحد ليس فيها سلالات، لكن تأثُّرا بالثقافة الزيدية الطبقية حصل تمييز طبقي عسكري بين الناس بحسب مواقعهم في المقاومة، فقد أسندت مناصب الدولة الجديدة بحسب مكانة الإنسان في القتال، لكن الذي حصل فيما بعد أن هذه المناصب تحولت إلى مناصب اجتماعية متوارثة،  فكل واحد من المواليد الجدد يرث مكانة أبيه ثم الحفيد يرث مكانة جده وهكذا.

كانت نور العفيفية استثناء بين النساء، وإلا فالمرأة لم تحمل السلاح، ولهذا فإن المجتمع اليافعي همشها تماما، وجعلها رمزا للدونية، ووصل أمر تهميشها إلى حرمانها من الميراث ومن مهرها المستحق، وعادوا بها من ناحية الظلم إلى شعار الجاهلية: (ما هي بنعم الولد!!) وتحملت من العمل في البيئة الجبلية القاسية من الطباخة وجلب الماء والحطب فوق طاقة الأنثى.

الجيش اليافعي المقاوم كان فيه قادة أفرزتهم المقاومة برتب حربية، وفيه أفراد مقاتلون،  وفيه أفراد في التوجيه الشرعي والمعنوي من أهل العلم والفقه، ومن التوجيه المعنوي من كان يقرع الطبول التي تثير الحماس في الجنود والرعب في الأعداء، ومنهم من كان في المطبخ، ومنهم من كان في الإمداد يصنع ما يحتاجه الجيش من حديد وملابس وأواني.

رغم أن أفراد التوجيه المعنوي والطباخين والحرفيين من إخوان المقاتلين وبني عمومتهم إلا أن المقاتلين بعد النصر رأوهم دونهم، ولهذا همشوهم، إلا إذا وجد عنصر قوي فإنه يفرض نفسه فرضا (القَبْيَلة لمن قوي سومُه).

في الدولة اليافعية الجديدة صار قائد اللواء يسمى (سلطانا)، ولنا هنا أربع ملاحظات:

- الأولى: أنه في الواقع قائد جيش صار شيخا لقبيلة بدأت تنتظم إداريا، ولكنه سُمي سلطانا من باب التضخم النفسي والسياسي أمام لقب (الإمام) في الدولة الزيدية، وكان اختيارهم لهذا اللقب عبارة عن محاكاة لصولة سلطان المسلمين في اسطنبول.

الثانية: أن السلطان العثماني في اسطنبول أعطى الضوء الأخضر لهذه المقاومة وشجعها عبر السلطان الكثيري قائم مقام الدولة العثمانية في حضرموت، ثم صار جميع قواد المقاومة (سلاطين) مجازا، باعتبارهم من جهة السلطان العثماني في مضادة الإمام الشيعي، وإن كانوا لا يتبعون الدولة العثمانية إلا بالولاء العام.

- الثالثة: أن يافع لم تتفق على سلطان واحد فقسمت نفسها إلى سلطنتين، والسبب فيما يبدو أن جيش المقاومة كان لوائين وليس لواء وحدا.

الرابعة: أن المقاتلين لم يعطوا لقائد لوائهم (سلطانهم) سلطة مطلقة، بل قيدوه بقيود عديدة،  ولا يصعد سلطان جديد من أبناء السلطان المتوفى إلا برضاهم، وللمقاتل (القبيلي) الحق في الوقوف في وجه قائد اللواء (السلطان) إذا خالف الأعراف والشروع.. وفي مراسم لف العمامة على رأس السلطان الجديد وعاقل المكتب الجديد دلالة رمزية على هذه المعاني.

في الدولة الجديدة صار قواد الكتائب عقالا لأفرادها، وتحولت الكتيبة العسكرية إلى مكتب اجتماعي، وصار لقواد السرايا مكانا في المكتب كلا بحسب موقعه في المقاومة، منهم عاقل ناصفة،  ومنهم عاقل ربع،  ومنهم عاقل ثمن، ومنهم عاقل فخيذة...إلخ

وهكذا نستطيع القول إن السلطنتين اليافعيتين عبارة عن لوائين عسكريين (مشاة جبلي) تحولا إلى بنية اجتماعية مع قدر من الديمقراطية يتمتع بها المقاتلون وحدهم.

كان في التوجيه المعنوي والشرعي أهل علم قدموا من حضرموت ومنهم من كان في يافع،  ولكنهم بعد النصر وتأسيس الدولة العسكرية لم يجدوا في يافع الجديدة ذات الطابع العسكري سوقا للعلم، فرحلوا عنها،  ومن بقي فيها فإنه لم يعلِّم أولاده العلم النافع بسبب كساد العلم في المجتمع العسكري، ولكنه كان إما أن يعلمهم القتال، أو يعلمهم ما يدر عليه من رزق، مثل سدانة الأضرحة، وإقامة الموالد، وكتابة العقود في الزواح والبيوع والطب الشعبي وغيرهما وقد يجمع بين الأمرين.

المناصب السياسية والعسكرية في الدولة اليافعية صارت وراثية يرثها الأبناء والأحفاد،  ومع الزمن تحولت إلى مناصب اجتماعية ورافقها اختلال اجتماعي، لأن الأبناء والأحفاد لابد أن يختلفوا عن الآباء والأجداد، ولهذا شهدت يافع صراعا اجتماعيا نتيجة اختلاف الأجيال الجديدة، فرب رجل كان جده قائد لواء (سلطان) أو قائد كتيبة (عاقل مكتب) أو غيرها من المناصب السابق ذكرها لم يعد هو بقوة جده، ورب رجل كان جده مقاتلا عاديا أو في التوجيه المعنوي، أو في الإمداد العسكري صار الآن بإمكانية قائد كبير والأيام دول.

هذا الاختلال الاجتماعي كان أحد أبرز أسباب الفتن التي كانت تحصل بين المكاتب والقبائل والأفخاذ والبيوت، فهذه الحروب تفسر نفسيا واجتماعيا باعتبارها احتجاجا على الوضع الإداري السائد، وتعبِّر عن رغبة أفراد في المجتمع برفع مكانتهم الاجتماعية والسياسية.

سقطت الدولة الزيدية في صنعاء بثورة 26 سبتمبر، وزال الخطر الوجودي والنفسي على يافع، ولأن النظام الاجتماعي كان فيه الكثير من الظلم والتهميش فإن جمهرة يافع سارعت إلى الثورة ثم الجمهورية، ورأوا فيهما حلا لكل مشاكلهم السياسية والاجتماعية والنفسية.

لكن الجمهورية في الجنوب بدأت تتجه اتجاها ثوريا طبقيا، وهنا رأى الكثير ممن يرون أن الوراثة وضعتهم في غير مكانهم اللائق من أحفاد المقاتلين العاديين ومن إليهم رأوا في الجناح اليساري في الجبهة القومية ثم الحزب الاشتراكي فرصتهم لتغيير المعادلة الاجتماعية الموروثة.

في مرحلة الجمهورية اليمنية الموحدة تميزت يافع بشيء من الحكمة الاجتماعية، فقد أعادت شيئا من التوازن بين مرحلتي ما قبل الثورة وما قبل الوحدة (بين الثقافة القبلية والثقافة اليسارية) وصار الناس تحت سلطة الدستور والقوانين، يتحاكمون رسميا إلى الشُّرط والنيابات والمحاكم، ووديا إلى الوجاهات الاجتماعية، ويتنافسون في صناديق الاقتراع التي يتداخل فيها النظامان القبلي والدستوري.

شهدت هذه المرحلة إعادة اعتبار للدين، وظهور فئة الدعاة وطلاب العلم الشرعي وأئمة المساجد والوُعاظ من أبناء جمهور الناس في يافع، وهي فئة أعادت للدين اعتباره، فزالت مظاهر الخرافة والقبورية، غير أن هذه الفئة تنقصها الخبرة والحنكة والخيال والثقافة مع بوادر مشجعة في الآونة الأخيرة.

كما شهدت مرحلة الثورة والجمهورية انتشار المدارس الحديثة والثقافة المعاصرة ووصل العديد من أبناء يافع عموما  إلى درجات علمية متقدمة ومراتب اقتصادية عالية منتشرين في أغلب الأماكن في الداخل والخارج.

وتحول كثير من أبناء المقاتلين القبليين إلى عسكر نظاميين في جيش جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، غير أن كثيرا منهم هُمِّش بعد حرب 1994م ودخلوا في مرحلة من الشعور بالظلم والإقصاء، وهو الذي أورث عدم الاستقرار.

حاليا يشهد اليمن عودة لبقايا الدولة الزيدية التي انهزمت قبل عقود أمام الجمهورية،  وصارت تضايق الجمهورية وتتوسع على حسابها بدهاء سياسي منقطع النظير، وتنظيم محكم فيه كثير من الخبث والمكر فاجأ الجميع.. فوصلوا إلى حدود يافع.

يافع حاليا سياسيا واجتماعيا وبسبب ضعف الدولة مرتبك للغاية يشبه تماما حالها أيام الصراع العثماني الزيدي قبل تأسيس السلطنتين، ونلاحظ حاليا تنافسا بين السلطنتين من جهة، ومن جهة أخرى بينهما وأعوانهما وبين الحزب الاشتراكي، ولو فندنا هذا التنافس لوجدناه تنافسا وهميا يعيش في عُقَد الماضي، ولا يستوعب الحاضر، ولا يفطن لطبيعة التغيرات المحلية والإقليمية والعالمية في عصر تكنولوجيا المعلومات، ولا يتطلع إلى مستقبل أفضل يستفيد من تجارب التاريخ وعلم الاجتماع، والسنن الإلهية في التداول بين الناس، ولا يدرك طبيعة الدولة الحديثة، ولم يفهم حتى النفسية اليافعية.

قلت قولي هذا وأنا أسأل الله أن يلهم يافع رشدها، ويوفقهم لمعرفة مكانتهم المحورية بالنسبة لجيرانهم، وبالنسبة للدولة الدستورية التي لا يناسبهم غيرها، فالرشد في القيادة والإدارة والسياسة منحة من الله لها أسبابها، ومن أبرز أسبابها دراسة التاريخ واستيعاب دروس الماضي، وتحليل الحاضر بغرض الانطلاق نحو المستقبل… وإن في يافع لبوادر توحي بالأمل أكثر مما توحي باليأس، وما تشهده حاليا من تعاون اجتماعي في التنمية المعتمدة على الذات خير مؤشر على هذا الأمل.