آخر تحديث :السبت-04 مايو 2024-12:45م

جارالله .. الميِّتُ الحيّْ ، من زاويةٍ مختلفة !

الخميس - 19 أغسطس 2021 - الساعة 10:02 ص

أنور العنسي
بقلم: أنور العنسي
- ارشيف الكاتب


إخترق (جارالله عمر) حياتي كرصاصةٍ طائشة ، ثم أحاط بي وبأسرتي وباليمن والعالم من حولي بسرعةٍ خاطفةٍ ، وبرشاقةٍ عذبة ، وتوترٍ جميل ، بل وبعاطفة أبِ رؤوفٍ ، وأخٍ محترمٍ كبير

من أي أفقٍ أو سماءٍ جاء فجأةً إلى عالمي هذا (المثقف) النحيل ، جميل العقل ، ذكيُّ القلب ، ضعيف الحال ، لطيف الحديث ، حلو المعشر ، ثم سرقني خلسةً مني ؟ لا أدري!

قبلاً ، احتواني جار الله عن بعدِ برسائله الغريبة قائلاً لي إن "صوتك الجهوري لا يعجبني فقط ، بل يطربني ، سواء كنت تقرأ شعراً أو نشرةَ أخبار في تليفزيون صنعاء ، أنا وكثير من الرفاق في عدن واليمن كله ، ومن بيننا أسماء كبيرة أخاف عليك من ذكرها"

المعنى ذاته ذكره لي في دمشق ثم عدن أخونا الكبير عمر الجاوي الرئيس (الوحدوي) الأسبق لاتحاد الأدباء والكتاب ، فالمثقف الراحل عبدالرحمن إبراهيم الأديبُ المهذبُ القريبُ من الجميع ، ولطالما كان هذا الأمر مثار تساؤلٍ لدي ، طوال سنواتٍ في عشرينيات حياتي .. لماذا لا نكون معاً ، ونعيش مثل كل الشعوب جميعاً؟ لماذا نفترق في شطرين لبلدٍ واحد ، ولماذا نختلف ونتصادم في تجربتين للعمل الوطني ، ونحن جمهوريتان على أرض واحدة تطوف بها كما قال إبراهيم الحمدي طائرة في ساعة ونصف وليست قارةً مترامية

عندما عاد جارالله إلى صنعاء بعد وحدتها مع عدن العام 1990 حاصرني من كل الاتجاهات ، واستباح كل المساحات حولي ، بيني وبيني ، في السياسة ، والثقافة ، والمجتمع ، وحتى أسرتي الصغيرة التي بدى كانه أصبح أحد أهم أفرادها

لم أكن الوحيد الذي تأثر على هذا النحو بجارالله عمر ، ولكن كان هناك كثرٌ من اليمنيين والعرب والأجانب تنضح كتاباتهم عنه بمثل هذا الانطباع ، فعلاوةً على كونه كان عقلاً سياسياً محنكاً ، كان كذلك كائناً اجتماعياً حاد الذكاء لا يمكن أن يترك أحداً ممن قابلهم في حياته داخل أو خارج اليمن دون أن تترسخ لديه هذه الفكرة عنه

عارض جارالله إنشغالي القصير بالسياسة ، بل كان مصراً على أنها لم ولن تكون مجالي ، لا تصلح لي ، ولا أنفع لها ، وألح عليَّ بحُنُوِ أخٍ كبيرٍ أن أعود إلى مربع الأدب والصحافة ، بل صارحني بذلك بكل وضوح في ذروة ما كنت أعتبره مجداً سياسياً ومهنياً لفتىً في عمري بالاقتراب نسبياً من رأس هرم السلطة حينذاك ، الرئيس الراحل علي عبدالله صالح الذي لم يكن تعجبه صداقات هذا (الفقيه) كما كان يصفه مع آخرين كثيرين غيري ، ولا حيويته في التواصل مع الناس بمختلف أطيافهم الاجتماعية ومستويات تعليمهم واتجاهاتهم الثقافية وانتماءاتهم السياسية

تنازعتني وقتذاك مفترقاتُ طرق شتي بفعل التأثير القوي الذي أحدثه جارالله في وجدان وتفكير شابٍ ثلاثيني مثلي .. إلى أين أهرب؟

عندما أغتيل جار الله في وضح النهار خلال مؤتمرٍ عامٍ لحزب الإصلاح الإسلامي بعد إلقائه لخطاب سلامٍ تاريخيٍ توالت علي الصدمات من كل جانب ، لم استطع استيعاب أن من أطلق النار عليه شابٌ متطرفٌ جاء إلى مكتبي قبل أسابيع ليضع بين يدي شريطاً سجل فيه خطبةَ جمعة دعا فيها إلى محاكمة (الرئيس) ثم يذهب بعد فترة من غسيل الدماغ أمضاها في السجن إلى اغتيال أهم معارضي الرئيس

عشت أسبوعاً صعباً داخل الأسرة التي افتقدت أخاً كبيراً ، وفي المجتمع السياسي الذي لم يكن وقتذاك قد أفاق من هول الصدمة ، وفي مجال العمل الذي لم يكن بمقدوره أن يعي أنني لست قادراً على الإدلاء بأي تعليق

عند تشييع جنازته أعددت تقريراً إخباريا موضوعياً ولائقاً بهذا الحدث ، تجنبت أن يكون لعاطفتي أي بصمة فيه ، وبعد إذاعته إتصل بي الرئيس الراحل صالح متسائلاً "لماذا بالغت في وصف جنازة جارالله؟" قلت له :"لقد كانت الأكبر ، بل الأقرب إلى المليونية من جنازة إبراهيم الحمدي" صمت قليلاً ثم قال "كلكم طينة واحدة" وبعدها أغلق الهاتف في وجهي دون وداع!