آخر تحديث :الخميس-25 أبريل 2024-04:54م

بشاعة الوثنية السياسية.

الإثنين - 14 يونيو 2021 - الساعة 09:56 م

د. سعيد سالم الحرباجي
بقلم: د. سعيد سالم الحرباجي
- ارشيف الكاتب


لا يختلف مفهوم الوثنية السياسيه كثيراً عن مفهوم الوثنية الشركية ..
فالأول منازعة الرب سبحانه في أحكامه والتعدي على شرائعه
والثاني منازعته في ألوهيته وإشراك معه غيره في العبادة. 

وكلا المفهومين تعد صارخ على حق من حقوق الله سبحانه فالله يقول في الوثنية السياسية :( ألا له الخلق والأمر )
ويقول في الوثنية الشركية :( ألا لله الدين الخالص )

ونحن في هذه الإطلالة سنختصر الحديث عن الوثنية السياسية وما يترتب عليها من تجاوزات في حق التشريع السماوي.

فلقد جاءت جميع الشرائع السماواية والتشريعات الأرضية السٌوية..  تؤكد هذا  المفهوم كمبدأ أساسي وكقاعدة راسخة ينطلق منها جميع الأنبياء والرسل وكذا المصلحون من البشر 
_الذين بذلوا جهوداً مضنية جداً _ لهدم الوثنية السياسية وتحرير العقل البشري من هذه الظاهرة السيئة والتي كان الناس بمقتضاها يخضعون لشرائع ملوكهم ويعظمون كبرائهم .

ولكن الإسلام تجاوز في ذلك كل الديانات السابقة والتشريعات الأرضية التي تمقت هذه الوثنية ...فشن حرباً لا هوادة فيها لهدم هذه الوثنية القبيحة والتي تنازع الله في أحكامه
فقال رسول الله :( لا قيلة ولا مَلِك إلا الله عز وجل ) .
واستبشع عليه السلام لقب ملك الملوك ..
وحذر أصحابه من الاقتداء بالفرس والروم الذين كانوا يعظمون ملوكهم ويقومون لهم.
 وجسد ذلك قولاً وفعلاً  في وجوب إنهاء ذلك السلوك السيىء..
ولهذا ربما وفد الوافد إلى المدينة يريد مقابلة رسول الله فلا يستطيع أن يميزه .. فيسأل أيكم محمد؟ وذلك ببساطة لانعدام أُبهة الملك الذي كان شائعا عند الفرس والروم وكبراء قريش.

بل إن الإسلام  لم يتوقف عند هدم الوثنية السياسية في النفوس وحسب ..وإنما عمد على قلب نظام الحكم القهري الهرمي رأساََ على عقب ..فجعل رأسا الهرم في الأسفل وقاعه في الأعلى ..فأعطى الأمة الأصل والمرجع والفوقية لهرم الحكم وجعل الحاكم أجيراً لها وخادماً عندها .
وفي هذا الصدد كتب ( ألبرت أينشتاين ) قائلاً :
" الدولة يجب أن تكون خادمة لنا ..لا أن نكون نحن عبيداً لها " .

والمتتبع للقرآن الكريم يجد أن هناك تكراراً ملفتاً جداً لقصة سيدنا موسى مع فرعون  وذلك لأنها تجسًِد حقيقة الصراع لهدم الوثنية السياسية وإعادة هرم الحكم إلى وضعه الطبيعي .

وقد كانت الهرمية الفرعونية تتألف من خمس طبقات أساسية لا تختلف عن شكل الأهرامات التي نشاهدها_ والتي تعتبر تجسيداً لكل نظام إستبدادي _
ففرعون يتربع على رأس الهرم ويقول :( أنا ربكم الأعلى )  ويتصرف في الشعب بمنتهى الحرية ..ثم يليه مباشرة ( هامان ) وزيره الخاص ومستشاره المقرب _  وهو يمثل عصابة المستشارين والمقرين في الانظمة المستبدة قديماٌ وحديثاٌ_
وفي الطبقة الثالثة يأتي ( قارون ) وهو تجسيداً لعصابة مافى الفساد المالي, 
وتتربع في الطبقة الرابعة ( سحرة فرعون ) وهم يمثلون اليوم فقراء الضمائر ومرتزقة الإعلام الذين تنحصر وظيفتهم في تزوير وعي الشعب وتمجيد الفرعون وتسويقه كأنما هو المنقذ للشعب,
وفي الطبقة الأخيرة وهي قاع الهرم يقبع عامة الشعب المسكين المطحون الذي يحمل على رأسه كل نفايات الطبقات العلياء ويتحمل كل قاذوراتهم .

ذاك كان  شكل الوثنية السياسية
التي وضع معالمها فرعون 
على شكل هرم فرعوني..
وهي صورة نمطية لكل وثنية سياسية قديماً و حديثاً.

ولهذا حرص الإسلام منذ الوهلة الأولى على هدم هذه الوثنية وقلب شكل الهرم الفرعوني أسفله إلى أعلاه ..
فجعل الشعب في أعلى الهرم ومنحه الحق  في اختيار من يستأمنه على دينه ومصالح  دنياه فهو المالك للسلطة يكلف بها  من يرتضيه وينزعها عمن لا يرضى عنه , وجعل الحاكم أجيراً عنده وخادماَ له يعبر عن إرادته الجمعية والشعب يطيعه بقدر ما يطيع_ هو نفسه_إرادة الشعب .

هكذا حرص الإسلام على هدم هذه الوثنية النكدة وذلك لما لها من مخاطر على الدين  والمجتمع  لأنها تنازع الرب جعل وعلا في خصيصة من خصائصه وهو الحكم الذي يقول عنه سبحانه :( إن الحكم إلا لله ) .
كما أنها تختزل السلطة في رأس رجل واحد يستأثر هو وحاشيته بكل شيء على حساب الشعب فيتربع على رأس الهرم ويجعل الشعب في أسفل قاع الهرم يتحمل وحده كل  تبعات نزغ المستبد .

ولهذا مثل تاريخ الأنبياء _كلهم أجمعون _ سعيهم إلى تفكيك هذه الوثنية النتنة... اعتقاداً بدعوة الناس إلى التوحيد , وقانوناً إلى التزام المساواة بين الراعي والرعية والتحاكم إلى قانون ملزم للجميع .
وهذا ما أكده فوكوياما بقوله :(
" اعتمدت حرمة القانون تاريخياً على الأصول الدينية "

لذلك فإن أي انحراف عن هذا المنهج.. هو تعد سافر على المنهج السماوي السوي وخروج على أحكام الشريعة الغراء .

وعليه فقد رفض خيار الصحابة سعي معاوية رضي الله عنه في  البيعة لابنه يزيد.. جاء ذلك على لسان عبدالرحمن ابن أبي بكر الذي قال له : " أجئتم بها هرقلية وفوقية تبايعون لأبنائكم. "
وهذا أبلغ وصف لرفض الوثنية السياسيه القبيحة .
وكأنها رسالة لمعاوية مفادها.. أتريدون إعادة عهد الهرقلية الذين يورثون الحكم لأبنائهم؟ وتعيدونها فوقية ..أي تعيدون  قلب الهرم لتكون السلطة في الأعلى والشعب أسفل الهرم؟

وتلك الكلمات كانت تعبيرا واضحاً وصارخاً منذ وقت مبكر جداً لرفض خيار الصحابة لانتزاع البيعة بالقوة من قبل معاوية 
لابنه يزيد .

ومنذ ذلك التاريخ انحرف خط السير السوي وأعيد الهرم مرة أخرى لوضعه الفرعوني ..وتم إحياء الوثنية السياسية النكدة وبصور بشعة.

ونتيجة لذلك  لم  يستقم أمر المسلمين بل ظلت الاضطرابات متواصلة وسالت الدماء إلى الركب .
ورغم جهود بعض الخلفاء الحثيثة لإعادة الأمر إلى نصابه إلا أن جهودهم لم تؤت ثمارها لقوة وصلابة القوى المستفيدة من هذه الوثنية .ِ

هكذا وفي فلتة من فلتات الزمن أعيد الملك العضوض الذي حذر منه الحبيب المصطفى وأعيدت معه الوثنية السياسية القبيحة وفي أبشع صورها  , كما تم  إحياء الهرقلية والفوقية التي حذر منها عبدالرحمن بن أبي بكر في وقت مبكر والتي لا نزال إلى اليوم نكتوي بنارها.

وانقسم الناس _ علماء وعامة _ إزاء هذا الشر المستطير الى قسمين :
قسم آثر السكوت والدوران في فلك المستبد مهما كان فساده وطغيانه .
وقسم أبى الانصياع للظلم مهما كانت العواقب المترتبة على ذلك .
وقد كان أهل الحجاز هم أول من ثار على هرقلية معاوية وأولاده وذلك إدراكاً منهم للبون الشاسع بين الخلافة على منهاج النبوة والملك على ملة قيصر وكسرى .
فتبلورت تلك النواة في رفض عبدالرحمن ابن أبي بكر البيعة ليزيد بن معاوية ومعه بعض الصحابة الأجلاء , ثم تجلت في ثورة الحسين بن علي  المسلحة على يزيد بن معاوية , ثم تلتها ثورات أهل المدينة الذين رفضوا الانصياع لهرقلية وفوقية معاوية وابنه يزيد فأمٌروا أمراء  على قريش والانصار والمهاجرين , حتى قال عبدالله بن مطيع العدوي (أمير الانصار)  ليزيد  :
(والله لو لم أجد إلا بَنِيّ هؤلاء لجاهدتك بهم ) .
وكانت كبرى ثورات القرن الأول الهجري ثوره عبد الله بن الزبير الذي بايعه بعد موت يزيد ( الحجاز , واليمن , والعراق , وخرسان ) وأبى أهل مصر والشام البيعة له  فخرجوا عليه بقوة السلاح وحاصروه في الحرم المكي حين احتمى به إلا أن الحجاج قد أمر بقتله تلك القتلة الشنيعة !!
ومع ذلك ظل الرفض مستمراً للوثنية السياسية في شكل تمردات واحتجاجات وخروج مسلح أحياناً أخرى ..إلا أن أمراء الجور قد استخدموا القوة المفرطة جداً لوأد تلك التحركات  .
وعليه  فإنً هذا السلوك الغير سوي في التعامل مع المخالفين والتنكيل بهم قد ولد شعوراً باليأس والإحباط لدى قطاع واسع من الناس من استحالة إصلاح الخلل وإعادة الامور إلى نصابها  , مما حدا ببعض الفقهاء أن يقرؤوا تلك المحاولات لاسترداد الشرعيه السياسية بأنها فتنة .
ولهذا  انطبعت تلك التسمية( فتنة ) انطباعاً سيئاً لدى الذاكرة السياسية الإسلامية,  مما أغراء أمراء الجوار أن يؤصلوا تأصيلاً شرعيًا  لتسميتها كسلاح فتاك يرفع في وجه المخالفين !!.. فسار في فلكهم كثير من علماء السلاطين الذين شرعوا لهم تصرفاتهم السيئة بكل من يقف في وجه تلك الوثنية البشعةِ.

فنكؤوا جرحاً في جسد الأمة لا يزال يثعب دماً حتى وقتنا الحاضر .
فتواصى أمراء الجور السابق منهم  للاحق بضرورة تعميق  تسمية مصطلح ( الفتنة)  في الذاكرة السياسية للأجيال وذلك لوأد أي محاولات للخروج على تلك الوثنية القبيحة ولو بالقوة المفرطة .

لذلك استثمر  أمراء الجور  هذه  التسمية الخبيثة استثماراً سيئاً.. حتى أصبحت تطلق على كل قول ناقد أو  ناصح يأبى السير في ركاب الظالم ويستبشع ظلمه .
ويعتبر الحجاج رائد هذه التسمية والحادي لها والمتوسع في تعريفها وتعميقها في الذاكرة الجمعية للأمة ..ذات يوم  قال له عبدالملك بن مروان :صف لي الفتنة كأني أنظر إليها فقال الحجاج :
"الفتنة تلقح بالنجوى , وتنتج بالشكوى , ويقوم بها الخطباء , وحصارها السيف " 
وهكذا استستاغ أمراء الجور تلك التسمية كسوط بيدهم يؤدبون به كل خارج على طاعتهم ويسكتون كل صوت يقض مضاجعهم ..
واستخدموا علماء السلطة لتعميق وتجذير هذا المصطلح لدى الناس حتى أصبح الشعب أمام خيارين كل منهما أمر من الآخر ...
إما السكوت على ظلم الظالم وطغيانه وفساده ..وإما الخروج عليه ولو بقوة السلاح ..
وعندئذٍ ستنطلق الأبواق وعلماء السلطة لتحريك ذلك والمصطلح السيء السمعة كمؤشر ومبرر للطاغية أن يستخدم القوة المفرطة والتنكيل بالرافضين  لظلمه وجوره.

لذلك  انطبعت تلك التسمية انطباعاً سيئاً لدى ذاكرة الأجيال المتعاقبة وتوارثوها جيلاً بعد جيل فولدت شعوراً لدى قطاع واسع من الناس استحالة إحياء القيم السياسية الإسلامية على منهاج النبوة وأهمها قيمة الشورى والتي هي أداة الهدم الرئيسية للوثنية السياسية .

ورغم انسداد الأفق وصلابة عمداء تلك الوثنية النكدة إلا أن هناك محاولات عديدة لاسترداد الشرعية السياسية على مدار التاريخ ..
ولكنها تبلورت بصورة أوضح وبطريقة أنجع وبوسائل أفضل في ثورات الربيع العربي التي فاجأت العالم في توقيتها وحسن إدارتها وفي شعاراتها وطريقة تعبيرها وفي سلميتها وفي شجاعة مناصريها ..
فكان لصدى تلك الأصوات الصاخبة التي تردد شعارات ( إرحل ) إرتدادات هزت عروش ظلمة كانت جاثمة لعقود طويلة من الزمن على كراسي السلطة ..وتهاوت عروش أخرى على وقع تلك الارتدادات ولا تزال أخرى تتأرجح ولم تعرف الاستقرار ...
ورغم المحاولات المستمية لقوى الثورة المضادة لأخماد تلك الشرارة المتقدة ..إلا أن  تلك الثورات أحدثت هزة عنيفة في جدار الصمت وثقبت ثقباً واضحاً في حاجز الصد وأضاءت نوراً نيراً في ليل القهر وأرسلت حجراً صلداً في مياه النهر 
..يستحيل معها العودة إلى الوراء مهما كلف الأمر .

فعبثاً يحاول اليوم عتاولة الثورة المضادة   إعاقة ذلك الحراك الشعبي الذي ضم كل أطياف المجتمع في تناسق وتناغم ووعي وتكامل وانسجام.. لم يسبق له مثيل في تاريخ الثورات حتى غدت  محل إعجاب وتقدير مفكرين وفلاسفة وساسة أجانب دعوا قادتهم إلى التعاطي معها بإيجابية ..
وعلى رأسهم 
المفكر الأمريكي
صامويل هنتغتون الذي قال :

 " أن السماح بانطلاق شرارة الأمل التي أضرمها الربيع العربي سيكون تبريرًا لمناصري كتاب صراع الحضارات " 

وصرح حينها وزير خارجية فرنسا بقوله : " لقد كانت ثورات الربيع العربي مفاجأة لفرنسا .  

كما تحدث عنها فوكوياما ونعوم تشو مسكي وغيرهم من الفلاسفة والمفكرين والساسة .

لقد كانت تلك الثورات بمثابة الروح الذي سرى في جسد الأمة عبأتها الرغبة الجامحة في التغيير والثورة على النظام السياسي القمعي السلالي المستبد.

 لذلك تعد  هذه الثورات  تحولاً تاريخياً 
لا يتوقع إنجازه خلال عدد محدود من السنوات
  إذ أنه ليس هناك ثورة من الثورات كاملة الأوصاف أنجزت تحولاً ديمقراطياً حقيقياً بقليل من التكاليف وبكثير من التسامح ..ولكنها خطوة في بداية مشوار هدم الوثنية السياسية النكدة واستعادة الشرعية الدستورية .