آخر تحديث :الخميس-25 أبريل 2024-12:10ص

بدر حمود .. رثاء الألم و الأمل ..!

الأحد - 13 يونيو 2021 - الساعة 07:06 م

محمد علي العولقي
بقلم: محمد علي العولقي
- ارشيف الكاتب


وهذا كوكب دري آخر يتهاوى في غياهب الرمق الأخير لحياة قاسها بعمله و صبره و تجلده، ربما غره سراب رحلته الأخيرة فأنشد يرثيني طلبا قبل أن أرثيه واجبا ، كأنما هذه الحياة فيلما سينمائيا قصيرا تزدحم أحداث المرء في حشرجته الأخيرة فيكتشف أن في حلقة غصة وطن ، غصة أصدقاء عند النوائب قليل، غصة وفاء استهلك و استنزف رصيده في زمن حرب وقودها الناس و الحجارة .. * أعرفك يا (بدر حمود) جيدا ، لذا أنعيك حيا أجدى من نعيك ميتا ، أعرف أنك تنام في جفن الردى من زمن بعيد المدى ، لكن الردى الذي سيطويك يوما تحت ثراه سيحتفظ برقمك و عنوانك و بقايا من تراب بدرك ، كنت و لازلت في الليالي الحالكات تتحايل على الموت فيأبى أن يصطحبك معه في نزهتك الأخيرة .. * أنظر إلى عينيك المسهدتين برماد محبسي العمى و الأرق ، أدقق في لونك الأسمر ، في ملامحك الأخيرة ، في ابتسامة صافية ساخرة من عظام نخرة ، فتبدو لي قيدوما لا تهزه أرزاء المنايا .. تأملوا (بدر حمود) في محنته ، يتراءى لكم أنه يحتضر ، لكنه في أوج تراكمات أمراضه يبدو قديسا صابرا على الابتلاء ، يبدو كالنقطة التي يلتقي فيها بحر دموعه المالحة بعذوبة نهر ابتسامته الساخرة من محيطه، ومن أصدقاء سيتذكرون بدرهم في ليلتهم الظلماء بعد فوات الأوان .. من يدفع لهذا (الفرقد) ثمن دمعته في جوف الليل ..؟ من سيداوي لوعته آناء الليل و اطراف النهار ..؟

من يمنع انتحار مشروعه العظيم و يمول أمنيته الأخيرة بعمرة وداع إلى بيت الله..؟ * هذا الذي يبكي مجده التليد في اليوم ألف مرة ، و ينتحر نفسيا في الساعة ألف مرة ، هو نفسه الذي يرفع رأسه لنوائب الدهر ، لا يبكي عمره المتهالك و حياته الزاعقة ، لكنه يبكي أناسا شيعوه إلى مثواه الأخير قبل أن تزهق روحه ، و ما أقسى قلوب أصدقاء الورق عندما يلغون عنوانك و رقمك من مفكرتهم و يهيلون التراب عليك قبل أن تآخيه .. * لم يبك (بدر) تضاريس حياته السابقة، و لا خارطة طريق صولاته و جولاته الرياضية ، لكنه يبكى حبا عظيما لم يعشه في ذروة مرضه، و عطفا كبيرا لم يشعر به من صديق في لحظة يأسه ، و حنانا دافئا لم يتدثر به من تقلبات نوبات المنايا في عز غيبوبته .. * من يقترب من غلافه الجوي سيسمع أناته الملتهبة و آهاته المحترقة ، ستدوي في أذنيه وداعية فارس عز عليه أن يكتب مشهد نهايته بقليل من الأمل و كثير من الألم .. الأطباء يريدون قلبه باردا كالثلج ، و قلبه لا يتئد يردد دائما : وا حر قلباه ممن قلبه شبم، بدر يرفض أن يموت بقلب بارد لا يحس و يتفاعل ، يحب أن يموت من دفء محبيه ، لا يرغب أن يودعكم بنظام طبي صارم ، يريد أن يحكي و يقص و يكتب روايته مع لعبة الحياة .. * أرثيك يا بدر المكارم حيا و كأنما أرثي ذكرى أبي، ففيك شيء مما فيه، لا أدري من سيسبق الآخر في سباق المنون أنا أم أنت (و ما تدري نفس ماذا تكسب غدا و ما تدري نفس بأي أرض تموت)، لكنني ألبي هنا رغبتك المتوحشة في معانقة كلماتي المكفنة بعطر عرقك و أريج ريقك و مداد دموعك.

* (بدر حمود) رياضي مختلف ، قيادي مختلف ، حجة عصره، إذا كان لتاريخ رياضتنا قلبا فهو نبضها، و إذا كان لرياضتتا رئه فهو هواؤها و نسيمها العليل ، مثلك يا (بدر حمود) لا يرحل صامتا ، أنت تسكننا و نسكنك، أنت من انحنى ظهرك ليستقيم وطنك ، ستبقى هنا حلم أجيال و أجيال تعلمت منك، وعلقت وصيتك الأخيرة على شفاه تبتهل لك و تتضرع للمولى عز وجل أن يستودعك جنته مع الصادقين المؤمنين .. * ألوذ دائما بدموعي و خلجاتي كلما تقصيت وضعك الصحي المتردي، بكيت خجلا من نفسي ، و خجلا من (طحالب) القيادة الرياضية المراهقة سلوكيا ، قمة الألم أن تستمر بالاتصال برقم يستقبلك بأنة .. بآهه .. بوخزة ألم ، و تسأل أي وطن هذا الذي لا يئن و لا يهتز عرشه لنحيب (بدره) الذي إذا أفل غاب ضؤه، و تلبدت سماؤه بغربان و جراد و بوم تنعق للشؤم ..؟ أي وطن هذا لا يصون كوكبه و يحميه من تصدعات اللحظة الأخيرة؟ المستشفيات الخاصة نظفت جيبه ، و ما بقي له من أثاث عرضه في مزاد اليوم الأسود ، يعتصرني الألم لأن عيني بغشاوتها ضبابية البصيرة، و يدي أقصر من أن تكون أكثر سخاء من وطن سلم رياضته لمغول قادم من كهوف اللئام حتى و إن تدثروا في عدن بريش النعام، نظفوا إداراتها بالليفة و الصابون .. * كل مكالمة مع الكابتن (بدر حمود) تنطوي على مأساة ، مأساة إنسانية من صنع أصدقاء الليلة الظلماء ، هناك جسد مسجى يئن من أوجاع شتى ، قلب عليل ، كليتان توقفتا عن الصرف الصحي، رئة رثة تتمزق شهيقا و  زفيرا، و عمود فقري هش آيل للسقوط ، الألم ابن ساقطة لا يكف عن الزيارة ، يوم (بدر) بلا بكره، و ليله الدامي الطويل ما طلع له نهار ، انفرط عقد سنوات المجد ، و حلت لعنة المرض ، و تبقى على لسان (بدر البدور) و رمز الرياضة اليمنية أمنية أخيرة : أتمنى من الله أن يمهلني لأداء العمرة ..

لكن كيف ستأتي العمرة و الجيب عريان يا مولاي كما خلقتني ..؟ * الذين تبنتهم دولة النفاق و أنفقت على علاجهم بالعملة الصعبة من أصحاب الحظوة و الذوات ليسوا في قيمة و كفاءة و قدرة (بدر حمود) الرجل الذي منح بلده كل شيء، و عندما جاءت لحظة الاختيار اكتشفنا (طفيليات) من وزن القمامة يسافرون أسبوعيا للسياحة، وقد حولوا أرجلهم إلى (مقارع طاسة) عمال على بطال .. * إن تتكلم عن (بدر حمود)، فأنت تتكلم عن عالم ملون مهووس بالأرقام و التاريخ ، عن دنيا رياضية أشبه بالجنة ، عن وطن كبير ، وعن رصيد ضخم من الحب لا ينفد بالتقادم ، البحر في صدره لوحة ، و النخل في فقره واحة ، هذا (بدر) بتلك الغلالة التي ترثيه حيا يكتب حكايته و يحن لأشعاره و نحن كل أشعاره و حكاياته مع لعبة الحياة .. * سلام إلى عينيك أيها البدر المنير الذي يمنحنا قبس البقاء في الضراء، سلام إلى جسدك المنهك و قلبك المثخن بأوجاعنا و همومنا ، سلام إلى عطرك المختبئ في جوف آلامك ، سلام لروحك الطيبة التي تطوف سماء قلوبنا، سلام لمن جعل الغصن العقيم ربيعا ، سلام لفكرك، لوضوح غايتك، لنبوغ عبقريتك الإدارية ، فمنذ أن توارى (بدرك) عن الإدارة الرياضية صارت في لعبة في قبضة القطيع .. *

تقرأ مرثيتي لك الآن بدموع حراء تغسل وجنتيك الشاحبتين، ستدرك أن هذه المرثية صندوق لحفظ ماء وجه الألم ، ستشكو ليلك للذي عيونه لا تنام ، لن يرعبك موت يعتام حولك كل يوم ، كل نفس للمنايا فرض عين، و السعيد من يترك في هذه الدنيا الفانية إرثا للذكرى ، هل يكفيك نبضي ..؟ نعى الناعون خير الثقلين، و عندما أنعيك فأنما أنعي نفسي ، أنا من مات و من مات أنت، لقي كلانا الموت مرتين ، إنها شهادة كتبها ربما أمير الشعراء (أحمد شوقي) على قبر والده ، فهل تظن أن الردى سيصادر تجلياتك ويلغي رقمك و عنوانك و مشوارك ..؟ * ستدور عينا نجلك الأصغر بيت عزك ككاميرا (زوم) ، هنا ركنك المفضل ، هنا فراشك، هنا كنت تداعب ، هنا كنت تقرأ الصحيفة مع قهوة الصباح ، تلك أشياؤك التي تفوح منها رائحتك الزكية ، هنا عطر أبوتك، هنا شجرتك الوارفة التي أثمرت أسرة كريمة ، هنا في هذه الزاوية حيث كنت تقبل أفراد أسرتك، عرقك بالنسبة لهم أجمل من رائحة كل العطور .. *

 كابتن (بدر) لا أحد يعرف مقدار قيمتك سوى من شاركك رحلة المخاض الأولى ، إن نفتقدك في زمن الأفك و البهتان فكأن الجدار الذي نستند عليه قد تصدع، و أوشك على السقوط ، رحيلك المكلل بصمت القبور يعني أننا سنفتقد ينبوع الحب و الحنان، سنفتقد مظلتك التي تقينا شرور تقلبات الدهر .. * كابتن (بدر) .. عشت شريفا و نظيفا و نقيا ، تداوي معاناتك بضحكة فيها أسرار من اللوعة ،لم تجرح يوما إنسانا ، لم تترفع أو تصعر خدك للناس ، ولم تكن يدك يوما ما مغلولة إلى عنقك، الخير معقود بناصيتك دائما، كنت غيمة عشق تمطر على بقاعنا فترتوي صحراء قلوبنا، كتبت مشوار حياتك بنبض وطنك، و عرق كفاحك، و دم قلبك ، مليون كلمة و كلمة لازالت عالقة في حلقي كالغصة، لن أخبرك عنها فقد و عيتها منذ ان أهال مراهقو القيادة التراب على تاريخك الطويل ، نعم تفاصيل كثيرة سترافقك إلى مثواك ستبوح بها يوم الحساب ، ستبقى اللحظة بيننا، لا ندري على من الدور و تلك مشيئة الله ، ولا راد لقضائه سبحانه وتعالى ..!