آخر تحديث :الخميس-25 أبريل 2024-03:31ص

دور الثقافة في نهضة الشعوب ..

الإثنين - 31 مايو 2021 - الساعة 02:24 م

د. سعيد سالم الحرباجي
بقلم: د. سعيد سالم الحرباجي
- ارشيف الكاتب


هناك بون شاسع جداً بين مصطلحي الثقافة والعلم ..
فالعلم يعطي المعرفة ولكن قد تكون تلك المعرفة مجردة لذاتها كما يقول المفكر الفرنسي ( فرنسوارابليه) :
" العلم بلا ضمير مفسدة للروح "
وهذا ما يفسر وجود خريجين من أرقى الجامعات ومن أذكى الطلاب في الطب والحقوق وغيرها ولكنهم يملكون علماً مجرداً منزوع الروح , منزوع القيم , منزوع الأخلاق 
لا يفكر صاحبه إلا في مصلحته الشخصية

وأما الثقافة فتعطي العلم ..إنها تعطي السلوك , تعطي القيم , تعطي الشعور لما حولك. 
تولد الأخلاق السليمة .
إنها السياج الحامي للمصلحة العلياء للأوطان .

والمقصود بالثقافة تلك الروح السامية  التي يستلهما جميع  أفراد المجتمع.. إنها تعني ذلك الوعي الجمعي حيال  المصالح العليا الذي يتسلح به جميع أفراد المجتمع   بدءاً من الفلاح والعامل وانتهاءً بالمفكر الأشد إطلاعاً  .

لهذا كانت الثقافة  هي العاصمة للمجتمعات في أشد المواقف صعوبة التي تتعرض لها  الأوطان .
 
فهذه ألمانيا خرجت من الحرب العالمية الثانية مدمرة تدميراً كاملا بل واعتبرها الأمريكان وحلفاؤهم غنيمة حرب ..
ومع ذلك لما تمض فترة وجيزة إلا واستطاعت
النهوض مرة أخرى واللحاق بركب الدول المتقدمة.. كما ذكر ذلك الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي والذي أكد أن إعادة بناء حضارة الألمان لم يقم به المفكرون والعباقرة وحدهم وإنما أعادته الروح الألمانية ..
تلك الروح التي سرت إلى قلب الراعي والفلاح والحمال والموظف والطبيب والسياسي والإعلامي والجندي والضابط على حد سواء .
انه ذلك الوعي الجمعي , تلك الثقافة العامة التي ينظر من خلالها كل أفراد المجتمع للمصلحة العلياء للوطن كأنهم على قلب رجل واحد .

والحال كذلك مع الصين واليابان وفيتنان وغيرها من الدول التي تتسلح شعوبها بثقافة عاليه ووعي نير .

لذا كان الجهل نقيض التنوير والثقافة ..
إنه ذلك الداء العضال المميت للقيم والأخلاق والمشاعر والحب ,المدمر للشعوب المهدر للطاقات المضيع للمكتسبات والمنجزات.

فلا غرو بعد ذلك  أن ترى كيف تحن شعوب إلى حياة العبودية  والذل والمهانة .

فبينما أنت تحدث أحدهم عن الحرية كقيمة إنسانية لا تقدر بثمن ..تراه تأخذه أشواقه إلى ذلك الماضي البغيض المنتهكة فيه كرامته وأداميته وقيمته كإنسان ..فقط لأنه كان يأكل ويشرب ويمن عليه الحاكم بنتف من الخدمات يظن إنه منجز وهو _ بجهله _ لا يعلم إنه واجب على الحاكم توفيرها .

ذات مرة سُِئلت ناشطة أمريكية كانت تعمل على تحرير العبيد في أمريكا فقيل لها  ما أهم عقبة واجهتك في مسيرة عملك قالت : صعوبة إقناع العبيد إنهم يمكن أن يصبحوا أحراراً

وهذا ما تعانية اليوم نخب التغيير 
صعوبة إقناع الشعوب بأن قيمة الحرية أهم من منجز يحلم به ذو فطرة سليمة
وإنها السبيل الوحيد لانتزاع الحقوق  وتوفير الخدمات وتحقيق التنمية .

لهذا  يمارس الحكام سياسة تجهيل ممنهجة على الشعوب وذلك حتى يسهل اقتيادها والسيطرة عليها ,
 فيجرونهم من بطونهم وشهواتهم على حساب قيمهم ومبادئهم.

ومن هنا  أعتادت الأنظمة الديكتاتورية عند رحيلها أن تغرز لها خناجر مسمومة في جسد الشعوب حتى إذا ما غادرت السلطة ... حركت تلك الحناجر لتمزق أحشاء الجسد المنهك فتسبب له متابع وآلام يتنمى _ نتيجة غياب الوعي والثقافة _  عودة الماضي الهاديء بالنسبة له ولو على حساب حريته وكرامته .

فإذا ما أخذنا وضعنا في اليمن _على سبيل المثال _ ما أن أخذ  الإنجليز يفكرون بالرحيل إلا ودسوا سمومهم في تلك الخناجر التي تركوها خلفهم ثم عمدوا على تحريكها في الجسد المتعب.. لتنهش أعضاءه وتمزق أحشائه .

وقد تترجم ذلك في الصراع الدامي بين الإخوة رفقاء السلاح حيث قسموهم إلى طوائف وأحزاب وجماعات وووو..
 فحلت تلك المجازر التي تدمي القلب .

مما حدا بجهلة القوم أن يتمنوا عودة الإنجليز لأنهم يرون _ بجهلهم _ أن أيام الإنجليز أفضل بمليون مرة من صراعات الإخوة الأعداء.
وفي الحقيقية هم لايدركون أن الإنجليز لا يزالون موجودين 
ولكن بصورة أقبح من صورتهم الأولى, وأنهم هم من يغذي ذلك الصراع ويذكي نار الفتنة .
لهذا _ولبساطتهم _ يصبون جام غضبهم على الثورة ويحملونها أوزار مآسيهم ويرون أنها مصدر الشقاء والعناء الذي يحصل لهم  . 

وقدصور  الشاعر الفيلسوف البردوني تلك الأوضاع بعد رحيل الإنجليزي والأمامة فقال :
لماذا الذي كان ما زال يأتي ؟
لأن الذي سوف يأتي ذهب !!!

إلى أن قال :
لأن أبا لهب لم يمت
وكل الذي مات ضوء اللهب .
فقام الظلام محل الضياء .
له ألف رأس وألفا ذنب 

أجل لقد انتهى رأس الاستعمار وقطع رأس الأمانة  ولكن الدماغ هاجر إلى مركز القيادة هناك  وترك خلفه  ألف رأس وألفا ذنب!!      كأختبوط دماغه في المركز وأرجله الرخوة هنا  يحركها لتحدث هذا الخراب والدمار  والاقتتال وإشعال الحرائق وإثارة الفتن التي تسببت بكل تلك المآسي التي لا نزال نتجرعها حتى الساعة .

فإذا ما بحثنا عن السبب الحقيقي لكل تلك المآسي
فسنجده يتجسد في الانانية المفرطة , وحب الذات لدى النخب التي تتسنم مقاليد الأمور 
 وكذا غياب الوعي الثقافي الجمعي لافراد المجتمع الذين يصفقون وراء كل ناعق
 
وإذا كان ذلك  وضع الاستعمار فإن من أتوا بعده واستولوا على مقاليد السلطة ساروا على نهجه بل وتفننوا في استخدام أبشع الوسائل التي تضمن بقائهم في السلطة وما بعد السلطة 

لذلك ما أن هبت رياح ربيع التغيير معلنة رحيل الأنظمة المعتقة..
إلا وعمدت تلك الأنظمة على استلهام تجارب المحتل فجددت شحذ الخناجر المسمومة وزودت السم فيها وتفننت في عملية تفعيلها لتزيد من فاعليتها 
فجاءت في صورة الثورات المضادة التي أشعلت الحروب القذرة وهدمت المعبد على رؤوس ساكنيه معلنة فتننة عمياء لا تبقي ولا تذر .

وهكذا أعاد التاريخ نفسه ولكن بصورة أعتى وأبشع  نتيجة الانفتاح الإعلامي الكبير 
حيث استغل إعلميو الدفع المسبق سوء الأوضاع وما آلت اليه _ نتيجة حركة أرجل العنكبوت الرخوة وخناجره المسمومة _  فشرعوا ينسجون الروايات والأكاذيب التي تحمٌل ثورات الربيع العربي  كل تلك المآسي.

ونتيجة لجهل الناس تنطلي عليهم تلك الحيل وهذه الأكاذيب فتراهم فعلاً يصدقون مثل هذه الإشاعات  فيحملون الثورة كل تلك الاخفاقات 
لأنهم يذكرونهم بما كان يجود به الحكام في بعض جوانب الحياة مقابل نهب أموالهم واستحلال كراسي السلطة لهم ولأسرهم لعقود من الزمن .

والحقيقة  الغائبة عن أولئك البسطاء أن سبب كل هذا الخراب والدمار هي تلك الأرجل الرخوة للعنكبوت وخناجره المسمومة التي تركوها خلفهم عندما غادروا السلطه مكرهين كما فعل الاستعمار .

 ولهذا يعملون على تحريكها من بعيد لتحدث هذا  التمزيق والخراب وتنهك الجسد المتهالك  

وهذه ثمرة من ثمرات التجهيل الممنهج للأجيال الذي لا ندرك خطورتة إلا أوقات الشدائد 
 
ولعلاج ذلك كله لا بد من إيجاد وعياً مجتمعياٌ قادراً على إيقاف عبث ما تسمى بالنخب المسيطرة على مقاليد الأمور  والتي تملكت الأنينة عقولهم وقلوبهم ومصالحهم الضيقة على حساب الشعب المطحون.. وذلك حتى يتم  فصل أرجل العنكبوت عن رأسه و كسر تلك الخناجر المسمومة ورميها في مزابل الغمامة
وإلا ستستمر في الإيذاء والتخريب

ومن هنا ندرك كم هي عزيزة الثقافة كقيمة إنسانية ضرورية لانتزاع الحقوق والحصول على الحريات وبناء الأوطان للوصول إلى تنمية حقيقية
وإحداث نهضة مجتمعية شاملة  .

كما ينبغي أن ندرك جميعاً أن هذه جولة من جولات الصراع مع قوى الباطل ومغتصبي السلطة وأنهم لا يمكن أن يضعوا سلاحهم ويغادروا الحلبة بسهولة لأنهم سيفقدون مصالحهم ويخشون من المحاسبة لما اغترفوه من جرائم في  حق الشعوب.

وهذا هو حال ثورات التغيير على مستوى التاريخ البشري مع الأنظمة الديكتاتورية  إذ أنه ليس من السهولة أن يتخلى النظام السابق للاحق بدون ضريبة .

وما تعانيه الامة اليوم هو مخاض التغيير 
_ أي نعم عسير _ ولكن لابد منه 
 
ورحم الله أمير الشعراء أحمد شوقي حينما قال :

وللحرية الحمراء باب **بكل يد مضرجة يدق