آخر تحديث :الثلاثاء-23 أبريل 2024-10:36ص

وأن البنوة زهرٌ جميلٌ وأن الأبوة دفق السنا.

الخميس - 20 مايو 2021 - الساعة 05:15 م

غالية عيسى
بقلم: غالية عيسى
- ارشيف الكاتب


سأعود بذاكرتي إلى الوراء، ذاكرتي التي لم تبتعد كثيرًا وهي تقطع ربيعًا من الزمن. 
الزمن الأخضر المترف بالحياة، والعطاء غير المشروط. 
في  سبتمبر عام 1977 م تعاقد أستاذي الغالي البروفسور الشاعر السوماني مبارك حسن الخليفة مع جامعة عدن كمدرس في أحد كلياتها، وكان عمري حينها شهرين وبضعة أيام؛ لأنني من مواليد شهر يونيو من  العام نفسه.

كنت أكبر في قريتنا البعيدة بضع أميالٍ عن  العاصمة عدن،  كنت أكبر وأرتبط بالأرض، وهو ذلك المعلم الذي يمد يده للنماء على أرضنا والعطاء لجبالنا وبحرنا وحقولنا وشمسنا وضحانا.
وهل هناك بذرة أكثر فضلاً ونبلاً من بذرة العلم وبذرة الشعر!!!

كبرت وبدأت تتلبسني جنية الشعر، وتستوطنني روح القصيدة. وفي العام ١٩٩٧م، التحقت بكلية التربية في جامعة عدن، قسم اللغة العربية، وكان أبي وأستاذي البروفسور مبارك حسن الخليفة محاضرًا هناك، انتهلت منه العلم والبيان وبدأ بتشجيعي حين سمعني أقرأ الشعر، وهم يساعدني في تقويم كتابتي عروضيًا ونحويا، فكان له فضلًا كبيرًا في تطور كتاباتي وانطلاقي نحو عالم القصيدة.
حظي أستاذي الغالي بتقدير كبير من الشعب اليمني في الشمال والجنوب؛ لأنه عمل محاضرًا وزائرًا في محافظات وجامعات يمنية عديدة في جنوب اليمن وشماله، وقد أحبه الطلاب والأساتذة والمسؤولين في الجامعات والجمهورية، وكان قريبًا من عامة الشعب بطيبة قلبه وتواضعه، فأحبه الخباز والفلاح والعامل البسيط في الشارع اليمني.
عمل أستاذًا بجامعة عدن لأكثر من سبعة وثلاثين عامًا، وهو ٲكاديمي وناقد وشاعر تغنى له مطربون من عدن وأمدرمان، وتخرج على يديه الآف الطلاب والطالبات.
 وكان أشهر من  نار على علم. 
فهو ناشط ثقافي واجتماعي، وله مساجلات وكتابات في الصحافة والدوريات، ومقابلات على وسائل الاعلام.  
عشق عدن حد الوله وكتب فيها أجمل قصائده، ومما قاله فيها: 
عدن توشح بالغرام فتاها
وبحبها بين الحسان تباها
في الساحل المسحور سطّر عشقه
حي الرشيد يشي بيوم لقاها
عدن هواها قد تملّك مهجتي
بالحب قد نلت المنى ورضاها
وشوشت للخرطوم ذوب مشاعري
وحكيت للنيل الحبيب صبابتي
النيل عودنا وبارك حبنا
ودعا فؤادي للهوى ودعاها
ذلك كان مقطع من قصيدة طويلة  قالها قبل رحيله من عدن الى أم درمان. 
 وقد لُقب بِ "عاشق عدن" فضلًا عن لقبه الثاني الذي عُرف به في الدوائر الثقافية والأكاديمية العدنية بِ " شيخ الشباب" وهو حقاً وفعلًا كذلك بما يمتلكه من نشاطٍ متقدٍ وإبداعٍ مستمر وروح دعابة حاذقة ورحيبة. 

ومنذ أن التحقت في الجامعة في العام ١٩٩٧م، تتلمذت على يديه المعطاءتين في البكالوريوس ثم أشرف على رسالتي للماجستير في جامعة عدن حتى تخرجت عام ٢٠٠٨م ، وعُرفت علاقتنا الأبوية في محيط الجامعة والجمهورية، وكانت قصيدتينا اللتين أهديناها لبعضنا حديث الجامعات والجرائد والمنتديات الثقافية أنذاك، وبعد ذلك وفي العام ٢٠٠٤م، أنتقلت أنا للإقامة في سلطنة عُمان بعد زواجي من شاعر عماني، لكنني بقيت على تواصل مستمر مع أستاذي وعائلته الكريمة في اليمن. 
حيث بقي هو وعائلته في عدن حتى عام ٢٠٠١١ م قرر أن يعود إلى موطنه الأول سوداننا الغالي.

عاد الأستاذ بعد أن أفنى سنوات العمر الطويلة في خدمة التربية والتعليم والثقافة والتنوير والمعرفة والبحث العلمي والقيم الأكاديمية في  عدن التي قدم إليها في عام 1977م وكان في قدومه المبارك خير وفير ونفع غزير لمئات الطلاب  والطالبات الذين نهلوا من فيض علمه الخصب، جيلا بعد جيل فضلًا عن نشاطاته الإبداعية في مجال الاعلام المكتوب والمسموع والمرئي طوال سنوات إقامته الكريمة. 
فمن ذا الذي لا يتذكر عموده الأسبوعي في صحيفة الأيام اليمنية ( لكي  لا نخطئ ) وما بذله من عطاء وإخلاص وتفان في خدمة وتنمية اليمن وأهلها الكرام. 

وفي ٣ مارس ٢٠٢١م  كان عيد ميلاد أستاذي التسعين حفظه الله وعافاه. 
وكان في حساباتي أن أسافر  في هذا  اليوم إلي السودان لزيارة أستاذي وأبي الروحي د. مبارك حسن الخليفة وقد حجزت مقعدًا في الطائرة؛ لولا أن سلطنة عُمان علَّقت جميع الرحلات من وإلى السودان وبعض الدول الأخرى قبل أيام بسبب "كورونا"،  فبكيت كثيرًا حين أرسلوا لي هذا فيديو لأستاذي الذي بلغ تسعون عامًا ومازال يبكي حين يتذكرني. 
يا الله كان صباحًا مؤلمًا وجميلًا.
اختلطت به الدموع مع الابتسامات وأنا أرى أستاذي مازال بخير ويتذكر كل شيء ومازال يتمتع بنفس الروح الطيبة الكثيرة بالعطاء رغم تقادم السنوات، ومازال النهر جاريًا.