آخر تحديث :الخميس-25 أبريل 2024-03:13ص

زيف الدولة المدنية وخرافة الدولة الدينية

الأحد - 16 مايو 2021 - الساعة 10:01 م

أمذيب صالح احمد
بقلم: أمذيب صالح احمد
- ارشيف الكاتب


كلما إقترب حزب ذو مرجعية إسلامية إلى الحكم بواسطة الإنتخابات ورضى الشعب إرتفعت أصوات بعض النخب السياسية في الوسائل الإعلامية والثقافية مطالبة بإقامة الدولة المدنية قاصدةً بذلك عن حسن نية إن كانت جاهلة أو سوء نية أن كانت مدفوعة متآمرة ، إن هذه الأحزاب الإسلامية قد تقيم دولة دينية ، حتى وصل الأمر في بلدين عربيين هما الجزائر ومصر أن الذين حصلوا على ثقة الشعب بنسبة قليلة حاولوا تعطيل سلطة الذين حصلوا على غالبية ثقة الشعب في أول إنتخابات نزيهة ، بل وحتى إنتزاعها بقوة الحديد والنار ، أي أن الأقلية تريد أن تتحكم في الأكثرية مستقوية بالإعلام الخارجي المشبوه والإعلام العربي الممسوخ مخالفين بذلك قواعد الديمقراطية وحرية البيعة للحاكم ، وهو ما يبين مدى النفوذ الإستعماري الغربي في المجتمعات العربية من خلال التغريب الأوربي والتطبيع الصهيوني.

إن الحضارة الإسلامية ما كانت لتقوم لها قائمة لو أن الإسلام بني على دولة دينية أو لو تبنته سلطة كهنوتية، "فالدولة الدينية " مصطلح لم يعرف إلا في أوروبا خلال العصور الوسطى المسيحية التي كانت في ذات الوقت عصور الإزدهار الحضاري والتنوير الإسلامي للأمة العربية والإسلامية ، ففي تلك القرون المظلمة من التاريخ المسيحي إستطاع بعض الحكام بمساعدة الكنيسة أن يحكموا بدعوى تفويض إلهي ، اي أن حكمهم مقدس لا يجوز الإعتراض عليه، فهم يستطيعون قتل الأبرياء ونهب ممتلكات الناس ومصادرة حقوق الآخرين وحرياتهم في أي مجال حسبما يشاؤون ، كما أنهم يبتزون الناس ببيع صكوك الغفران ودخول الجنة على المؤمنين بهم.

إن سبب نشوء الدولة الدينية في أوروبا خلال تلك العصور المظلمة السابقة لعصر النهضة هو أن الدين المسيحي يحمل في طياته تجسيداً للإلوهية في شخصية بشرية هو عيسى عليه السلامكما أن الإنجيل تختلف رواياته وتعاليمه إختلافاً كبيراً حسب إختلاف معارف حواريه من كبار القساوسة عن حياة المسيحي وأقواله وأفعاله ،ولذلك لم يجد بعض رجال الكنيسة في تلك القرون غضاضة في إلباس بعض الحكام صبغة الإلوهية في الحكم وفي تقمص رجال الدين أنفسهم لإلوهية تجعل تعاليمهم وأوامرهم الدنيوية مقدسة واجبة النفاذ حتى ولو كانت زاهقة للأنفس البريئة في الشعوب الأوروبية التي يتحكمون عليها.

وقد تعزز تسلط الدولة الكهنوتي من خلال الفكر السياسي والقانوني السائد في أوروبا الذي يؤكد سيادة الحاكمين على المحكومين ، وعدم الإعتراف بحق المحكومين في الإشراف على حكامهم .
أن الدولة الدينية المسيحية التي عرفتها أوروبا في قرونها الوسطى تتصف بالأوصاف التالية :

الاول : إدعاء الحاكم بأنه مفوض من رب السماء في حكم الناس والتسلط عليهم سواءً بدعم رجال الدين أو بغير دعمهم ، ولذلك فهو معصوم من الخطأ.

الثاني : أوامر الحاكم ونواهيه مقدسة لا تقبل المراجعة لأن حق إشراف الشعب ومراقبته مرفوضة.

الثالث : الحكم فردي طغياني إستبدادي مليء بالمظالم والمفاسد وإستغلال الناس، ولاشي يصون حقوق الناس ومصالحهم ، وقد يشترك رجال الدين مع الحاكم أحياناً في إدارة بعض الأمور.

الرابع : الشرعية الإلهية مصدر السلطات وليست الأمة ، ولذلك لايوجد قضاء مستقل .

ولما أنتشرت حول أوروبا حضارة الإسلام بقيمها ومفاهيمها المختلفة في البلدان الواقعة شرق أوروبا وغربها وجنوبها كان لها تأثير كبير على المفاهيم السياسية والدينية السائدة في كثير من المجالات ومن بينها مفهوم الدولة المدنية، أي حكم البشر للبشر وما يستتبعه من علاقات ونتائج بين الحاكم والمحكوم حسب ظروف الزمان والمكان ، فقد وجد الأوروبيون أن الحكم في الإسلام (نظام الخلافة) يتميز عن الدولة الدينية المسيحية لديهم بالأمور التالية:

الاول : هناك إختيار وبيعة (الانتخاب) للحكام فهم يستمدون سلطانهم من الناس،حتى لو أخذوا الحكم بالتغلب.

الثاني : إن العلاقة الدينية هي بين الإنسان وربه ، ولا حاجة لوسيط يدعي تأبطه لتفويض إلهي، فحتى رسول الإسلام كان يفرق بين قدسية ما ينقله وحياً للناس (قران وسنة) وبين عدم قدسية ما يقوله بصفته البشرية كإنسان .

الثالث : إن الشورى مبدأ في الدولة والمجتمع بين الناس في مختلف مستوياتهم ولا يوجد إقرار بتعظيم سلطة الفرد والخنوع لها.

الرابع : إن حق الإشراف والرقابة على الحكام يقع تحت طائلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الذي هو حق شرعي للأمة ، بحيث أن الحاكم لا طاعة له في معصية الله (شريعة الأوامر والنواهي ).

الخامس : إن حقوق الناس وحرياتهم ومصالحهم الخاصة والعامة محمية في حدود نظام قانوني هو الشريعة الإسلامية.

السادس : إن القضاء في الدولة الإسلامية يتمتع بإستقلالية أحكامه عن أهواء حكامه بمقتضى شريعة قانونية يحترمها الحكام والمحكومين.

إن سنة الله في التدافع بإحقاق الحق وإزهاق الباطل جعلت النخبة في أوروبا تتأثر بالأفكار الثورية التي تمور في المجتمعات الإسلامية حولهم خلال القرون الوسطى المسيحية فأحدثت صراعاً في المجتمعات الأوربية في مختلف المجالات السياسية والدينية أمتد زمناً طويلاً حتى أدى إلى إصلاحات سياسية ودينية ونهضة قومية كبرى عصفت بالدولة الدينية وحلت بدلاً منها الدولة المدنية ، ويمكننا أن نستنتج من السياق التاريخي لهذه القضية المسائل التالية وهي:

الاول: أن الدولة الدينية هي بالأساس دولة مسيحية ولم تنشأ تحت أي دين أخر .

الثاني: أن الدولة الدينية تستمد دينيتها من صفتين الأولى أن الحاكم يسم نفسه بإلوهية معينة تجعل له علاقة بالسماء فيدعي أنه مفوض بالحكم من الله والصفة الثانية هي أن أحكامه مقدسةً لاتقبل النقد أو المراجعة.

الثالث: إن الدولة الدينية تتصف بالإستبداد والظلم والقهر والإستغلال النابع من ألوهية سلطة الحاكم وقدسية أحكامه .

الرابع: أن مؤسسات الدين المسيحي ورجال الدين فيها شاركوا في إيجاد الدولة الدينية وترسيخ مفهومها .

فإذا نظرنا إلى الإسلام فإننا لا نجد فيه رجال دين ذوي قداسة بل علماء دين يؤخذ منهم ويرد عليهم، كما إننا لا نجد من يدعي سلطة إلهية للحكم أو قدسية لأحكامه بل شريعة يستخدمها الحاكم والمحكوم حسب فهمها ضمن السياق التاريخي للمجتمع ، ولا يستطيع أحد إدعاء ملكية الحقيقة لوحده ،كما إنه لا توجد كهانة فردية أو مؤسسية إلا في بعض الفرق الباطنية الصغيرة ، التي تأثرت بالفكر المسيحي والإسرائيليات ، ولذلك فأن الإسلام لا يقبل شرعاً أو سياسةً مفهوم الدولة الدينية التي طبقها المسيحيون الاوربيون بأي حال من الأحوال ، بل إن الدولة الإسلامية الأولى التي أنشأها رسول الإسلام الأكرم كانت دولة مدنية بكل المعاني ، ولكن الضجة الإعلاميةالغربية والعربية التي تحارب التيارات الإسلامية السياسية كجزء من الحرب على الإسلام تحاول لصق تهمة الدولة الدينية بالإسلام لحرف الشعوب عن إختيارتها الوطنية الطبيعية الملائمة لها إجتماعياً وتاريخياً لأن الإسلام لا يقبل الإستعمار الأجنبي أو الإستغلال الرأسمالي المتوحش الذي يعولم إقتصاد الشعوب المتخلفة، المقهورة في الأمة العربية والإسلامية.

إن الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية لا تختلف عن جميع الأحزاب السياسية الأخرى في منهج إستمداد عقائدها السياسية والإقتصادية والإجتماعية من أي أفكار إنسانية مطروحة للجميع مهما كان مصدرها السماوي أو الأرضي مادامت صالحةً ونافعةً للناس ،لأنه من حق الشعوب أن تقرر وتختار ما يناسب تطورها وتنميتها من العقائد والأفكار مادامت أيضاً ملتزمة بحقوق الناس وحرياتهم ومصالحهم التي تضمنها الشريعة الإسلامية أكثر من غيرها من النظم. ان الاسلام يختلف عن كل الاديان , فهو ليس دينا لاهوتيا فقط ولكنه دين أرضي يحمل في طياته برامج اقتصادية واجتماعية وثقافية وتشريعية تنظم حياة الانسان تنظيما تكافليا بما يجعلها تتصادم مع مصالح القوى المترفة في الرأسمالية الاستغلالية الجشعة.
إن الذين يرفعون شعار التخوف من الدولة الدينية هم من الليبراليين واليساريين والعلمانيين (بفتح العين أي الدنيويين وليسوا أصحاب العلوم ) الذين يدينون بالديانات الليبرالية والرأسمالية واليسارية المادية فوق اسلامهم حتى ألتبست عليهم الامور, ولقد أستنزفوا طاقة الشعوب العربية النضالية في بناء دول ديكتاتورية مستبدة قاهرة وظالمة لم تحقق إلا الخسران والفساد والبوار للشعوب العربية منذ إستقلالها خلال القرن الماضي وحتى اليوم .

إن التغريب الفكري ومحاولة القفز على التراث الإسلامي والحضاري سياسياً وثقافيا وإجتماعياً من خلال سلالم التغريب الأوربي سيؤدي بنا دائماً إلى الإحباط والفشل، فكل الشعوب الناهضة حافظت على أصالتها وهويتها، وأستطاعت أن تتقدم وتنمو في مختلف المجالات . فسياسة التغريب الشكلية التي تمارسها بعض النخب لا تخدم الشعوب في التطور والنماء ولكنها تجعلها فريسة للسقوط في قبضة الإحتلال الأجنبي والإستغلال الإقتصادي والإنهزام الثقافي.

فالدولة التي يجب أن ننشدها جميعاً هي الدولة الديمقراطية وليست الدولة المدنية كما يحلو للبعض، لأن الدولة المدنية التي نشأت في أوروبا بعد سقوط الدولة الدينية المسيحية منذ أكثر من ثلاثة قرون لم تكن دولة ديمقراطية بالمعنى الحقيقي بل تراوحت تاريخياً بين أنواع من الديكتاتوريات المدنية والعسكرية وتوجت في أوروبا بأنظمة حكم عنصرية وفاشستية وتوتاليتارية وبلشفية رافقها إستعمار خارجي للشعوب وإمبريالية كبرى عالمية. اما البلاد العربية فقد حكمتها منذ إستقلالها نظم مدنية ديكتاتورية مستبدة في لبوس مختلفة من الملكيات والجمهوريات الزائفة،ولم تستطع حتى الأن إقامة دولة ديمقراطية بالمعنى الصحيح.

عندما يتجاوز أي مجتمع إنساني تراثه العقائدي وأخلاقه وأعرافه وتقاليده الأصيلة التي تصلح للتطوير والبناء عليها سياسياً واقتصادياً وثقافياً فإن النتيجة الحتمية لذلك التجاوز هو الاختلال والاضطراب والخيبة. والدول العربية منذ سقوط الدولة العثمانية في أوائل القرن العشرين تعرضت هويتها الإسلامية والعربية لعواصف المسخ والتغريب الأوروبي من القوى الاستعمارية الخارجية ومن قوى العداء الداخلي للإسلام والعروبة فطبقت منها النظُم والأساليب الأوروبية في الحكم والقضاء والإدارة كما تغلغلت قيم الثقافة الغربية في الحياة الاجتماعية لأوطان العرب وفي نفس الوقت رافق ذلك احتقار وإهمال لتراث الحضارة الإسلامية وعقائدها وموروثها الثقافي.