آخر تحديث :السبت-11 مايو 2024-01:24م

فرنسا والارهاب.. لعبة الشيطان

الخميس - 07 يناير 2021 - الساعة 04:02 م

د. عبده البحش
بقلم: د. عبده البحش
- ارشيف الكاتب


يبدو ان فرنسا قد ابتليت بوضعية معقدة فى علاقتها مع فاعلي التطرف والعنف الاسلامي، وربما يعود ذلك الى سياسات باريس المكشوفة تجاه الإرهاب، أو الانتشار الواضح لقواتها في معاقله الرئيسية، او الإرث الاستعماري للفرانكوفونية فى الذهنية الاسلامية الجهادية، او ربما باعتبارها مركزا لتصدير الجهاديين، ومركزا للحرية والعلمانية، التى يناوئها الفكر الاسلامي المتطرف. كل هذه الأسباب  تجعل فرنسا من أكثر بلدان القارة الأوروبية تعرضا للهجمات الارهابية الدموية، التي حولتها إلى بؤرة للعنف في القارة العجوز.

من الواضح أن حادثة الطعن في نيس، والتى وقعت مؤخرا فى نهاية أكتوبر الماضى، وقبلها حادثة قطع رأس مدرس التاريخ صاموئيل باتي رفعت من وتيرة استمرار الحراك الإرهابي ضد فرنسا والذى بدأ مع أحداث مجلة شارلي إيبدو  في عام 2015م. يرى البعض ان الأمر ابعد من ذلك بكثير، حيث كانت فرنسا هدفًا رئيسيًا للجماعات الإسلامية المتطرفة منذ عقود بسبب الإرث الإستعماري لباريس داخل الجغرافيا العربية والإسلامية، وهو ما عبر عنه زعيم القاعدة الحالي أيمن الظواهري بقوله "إن الغزو النابليوني لسوريا وفلسطين عام 1798 كان مؤامرة خادعة لتأسيس دولة يهودية في فلسطين". وهو ما جدد جذور العنف والإرهاب ضد فرنسا.

مع مرور الوقت تحولت أراضي الجمهورية الفرنسية إلى المستودع الأول للمتطرفين الإسلاميين في أوروبا، حيث يوجد 18000 ملف لدى جهاز المخابرات الفرنسي لأشخاص لديهم ميول للتطرف الاسلامي، بالاضافة الى أن وباء المتطوعين الجهاديين المتواجدين على الأراضي الفرنسية يسبق تاريخياً الصراع في سوريا والعراق ضد داعش، ويشكل امتدادا للموجة الإرهابية التي ضربت  الجزائر في تسعينيات القرن الماضى، خاصة وأن القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، كانت أول منظمة إرهابية تضع مهاجمة فرنسا في صدارة أولوياتها الجهادية.

تشكل فرنسا منطقة جذب هامة للعمليات الإرهابية الاسلامية، وذلك بفضل العديد من العوامل المساعدة التالية، العلمانية الفرنسية، التي حظرت ارتداء الحجاب الإسلامي في المدارس الفرنسية عام 2004م، ثم منعت ارتدائه في الشارع عام 2010م. الرؤية الفرنسية لحرية التعبير، التي تسمح بانتقاد الأديان على نطاق واسع، قد وضعت باريس في مرمى المتطرفين الاسلاميين، يضاف إلى ذلك استضافة فرنسا لأكثر من ستة ملايين مسلم، وهى أكبر جالية اسلامية في أوروبا يعرضها دائما للعديد من التوترات والاشتباكات المجتمعية بشكل أكثر وضوحاً عن باقي البلدان الأوروبية.

تقود باريس قوات مكافحة الإرهاب الإسلامي في منطقة الساحل والصحراء الافريقية منذ يناير 2013م، لكن جماعات الاسلام الجهادي أعتبرت هذا الأمر تدخلا مباشرا ضدها، الامر الذي جعل فرنسا هدفا رئيسيا للهجمات الارهابية الانتقامية. تعد فرنسا موطنا رئيسيا للاستيطان النشط للاسلام السلفي والاخواني والفاشيات الجهادية، حيث صدرت الى سوريا والعراق ما يقارب 1700 جهادي. خلال عشرين عاما شهدت فرنسا نمواً للشبكات والخلايا الجهادية والتي حولت الجغرافيا الفرنسية من باريس وحتى تولوز الى  بؤر متحركة للعناصر الإرهابية.

المشهد الحالي، هو سيطرة الجماعات المتطرفة، الإسلام السياسي، بغطاء الدين، تحديدا جماعة الإخوان على أغلب الجمعيات والمساجد، التي كانت متورطة في التحريض على الإرهاب والتطرف. لقد أدركت فرنسا الآن ولو بشكل متأخر حجم الخطر الذي يمثله الإسلام السياسي داخل فرنسا ودول أوروبا، بعد أن وصفها الرئيس الفرنسي بـالانفصالية والمقصود بذلك وجود محميات منعزلة اجتماعيا وثقافيا عن فرنسا، وهي تعيش في الداخل الفرنسي. الإرهاب تحول إلى صناعة تدار من قبل جماعات الإسلام السياسي الطامحة إلى حكم العالم، والتي لا تزال تفكر بمنطق الفتوحات والغنائم والسبي وتقسم العالم إلى ديار إسلام وديار كفر، وهي تشتغل في ذلك على الفئات الهشة من المجتمعات، وتعتمد على مظلومية كاذبة في الترويج لمشروعها، وتدرك أن الخطاب المتطرف أكثر جذبا من الخطاب المعتدل، خاصة لدى الشباب والفقراء وفاقدي الوعي النقدي والمصدومين حضاريا والمهزومين من الداخل، ممن يعكسون خيباتهم الشخصية على المجتمع، بزعم أن أزمة الأمة في عدم تطبيق الشريعة الاسلامية.

ان مفهوم الانفصالية يعني باختصار مسعى تقوده جماعات إسلامية متطرفة لإعلاء شأن أيديولوجيتها على حساب مبادئ الجمهورية الفرنسية العلمانية، وتالياً فرض قوانينها الخاصة على القوانين العامة. وتنشط هذه الجماعات في التجمّعات السكنية المسلمة في فرنسا، حيث تقيم مدارسها الخاصة، وحيث تفصل الذكور عن الإناث في الملاعب وفي أحواض السباحة، وتستبدل الدروس التقليدية بدروس دينية، وتمنع الاختلاط في المقاهي والمطاعم، وتفرض ملابسها الخاصة، وتستفيد من تمويل خارجي. لقد ضجّ المجتمع الفرنسي بتحقيقات، أُجريت بتقنية "الكاميرا الخفيّة"، بيّنت أن هناك مناطق في فرنسا يفرض فيها المتطرفون الإسلاميون قوانينهم على النساء، وعلى قائمة الطعام والمشروبات في المطاعم والمقاهي.

يقول استاذ الاقتصاد في جامعة فرانكفورت الالمانية من أصل مصري ان فرنسا التي يتهمها البعض الآن بأنها تحارب الإسلام، فيها نحو 3 آلاف مسجد، وأكثر من 6 ملايين مسلم فتحت أبوابها لهم واحتضنتهم ومنحتهم الإقامة والجنسية وكل الحقوق الأخرى المتعلقة بالمواطنة والانتخاب. قال مدير السياسات في مركز الإنذار المبكر للدراسات السياسية والأمنية، إن الأزمة تتعلق بنمط الخطاب الديني السائد لدى المجتمعات المسلمة في الدول الغربية، مضيفاً "نحن أمام نسخة إسلام ليست كالتي نزل بها الوحي وبشر بها رسول المسلمين. هذه النسخة خضعت لعملية ضبط بما يتناسب مع مصلحة طرفين، وهما التنظيمات التي تتبع تيار الإسلام السياسي والدول، التي تقوم بتشغيلها. وللتخلص من هذا الخطر، الذي يضر بفكرة الدين نفسه وبمصلحة المسلمين، يجب القيام بإجراءات، أهمها الاستمرار في تجفيف مصادر التمويل وإدارة أفضل لمصادر الحصول على المعرفة الإسلامية في الغرب.