آخر تحديث :الخميس-25 أبريل 2024-03:31ص

السلالة الرسية وسياسة الإقطاع في اليمن

الأحد - 12 يوليه 2020 - الساعة 12:45 م

علي البكالي
بقلم: علي البكالي
- ارشيف الكاتب


 

 

             كتب: علي البكالي

 

لم يكن نظام الحكم الإمامي الهادوي الرسي في اليمن يقوم على أسس ومقومات دولة، ولا حتى من دويلات العصور الوسطى التي عرفها العالم، بل هو نظام ثيوقراطي أوتوقراطي يقوم على أساس فكرة أن الإمام نائب عن الله في اليمن، وأنه يفعل ما يريد كما يريد دون أن يلتزم بأي قانون أو شورى أو مصلحة شعبية، أو حتى نظام معلوم للحكم والدولة، فالإمام هو كل شيء، وإليه مرد كل شيء، والقانون ما يصدره هو، والأمر والنهي له أولاً وأخيراً.

 

لقد كان الإمام يحوط نفسه بهالة قداسة، عبر نشر فكرة أنه ابن الرسول، وأنه معصوم من الخطأ والزلل، وأنه قائم مقام الرسول في الأمة، وأن ما يصدر عنه دين لا سياسة، وأن سلطته في اليمن هي ظل لسلطة الله العامة، وأن غضبه من غضب الله، ورضاه من رضى الله تعالى، وأن له سلطة مطلقة ليس على الإنس فقط، بل وعلى الجن، وأن به تتنزل الأمطار، وتتبارك الثمار، وبمعصيته يحل القحط والبلاء والعقوبات.

 

هكذا بنيت سلطة الإمامة في اليمن على مدى 1200 عام، على أساس ثيوقراطي كهنوتي فردي مستبد وغاشم، لا تؤمن بالشعب ولا تقيم له مؤسسات لإنصافه، فالشعب مجرد عمال وخدم لدى الإمامة، لا حقوق له، فهم ليسوا مواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات كباقي دول العالم، بل هم رعية وأقنان يعملون في الأرض للزراعة لكي يطعموا الإمامة وقبائلها المقاتلة معها، وليس لهم أدنى حق، بل إن الواحد منهم يمشي حافياً عارياً جائعاً جاهلاً ليحرث حقله، وينتظر الأمطار، فإذا جاء وقت الحصاد أخرج ثلثي المحصول للإمام وعماله وجعلاً لقبائل الإمام، ثم لا يكفيه باقي المحصول قوتاً له وأهله طوال العام، حتى يستدين، وهكذا يظل دائن من عام لعام، وهو يقوم على خدمة الإمامة وقبائل الفيد التابعة لها.  

 

أما نظام الاقتصاد الإمامي في اليمن، فكان نظاماً ريعياً يقوم على الجباية فحسب، فالرعية المغلوبين على أمرهم مطالبون بملأ خزائن الإمام من الدراهم والجنيهات والحبوب والغلات كل عام، وليس على الإمام وعماله إلا أن يفرضوا على كل محلة ومنطقة مقدار ما يدفعونه من أموال نقدية وغلات عينية ما دون الزكاة، وتحصيلها بالقوة والإكراه ولو أدى ذلك إلى قتل المواطنين أو الزج بهم في سجون الإمامة في حال عدم قدرتهم لدفع ما كلفوا بدفعه.

 

وكان الإقطاع الطفيلي عنوان النظام الاقتصادي والجباية في سلطات الإمامة، حيث كان الولاة يعينون بحسب ما يقدمونه من أموال سنوية للإمام، فمن يدفع أكثر يعين والياً أو يستمر في ولايته، وكان سباق الولاة على بعض المناطق بعينها سباقاً محموماً، لما تجلبه تلك الولاية من عائدات وأموال كثيرة، ومن تلك مناطق الوسط من اب وتعز والحديدة وريمة والمخا، حيث كانت تعتبر هذه مناطق الزراعة، وكان الولاة يتسابقون عليها ويقدمون للإمام عروضاً أكثر.

 

وكان الأئمة يتعاملون مع مناطق اليمن الأسفل والمناطق الغربية والجنوبية بنظام "القبال السنوي" وهو نظام إقطاعي، يقوم على أساس منح سلطة منطقة ما من هذه المناطق لأحد رجالات الإمام، وقد يكون من أسرته أو من مشائخ قبائل الفيد الشمالية، مقابل أن يدفع مبلغ سنوي من الجنيهات، كأن يكون المبلغ 5000 جنيه أو أكثر، فيقوم الوالي بجمع أضعاف المبلغ من الرعية بالقوة والإكراه لأنه يعتبر ولايته تلك فرصة للثراء، فوق مطلب إيفائه بإلتزامه للإمام.

 

ولم يكن مسئولو الدولة في كل عهود الأئمة يتقاضون رواتب شهرية من خزانة الدولة، لأن الأئمة قد عمدوا إلى خلق سياسة أخرى في هذا الجانب تتمثل في إعطاء المسئول نسبة مالية محددة له، يقوم بخصمها من واردات الجهات المعنية به، ما عدا قاضي القضاة "وزير العدل" فإن الدولة تقوم بإقطاعه مناطق صغيرة أو متوسطة على قدر وجاهته وقوة شخصيته، وكذا الجند المقربون من الإمام أو حاشيته هم الذين يحدد لهم نفقات شهرية زهيدة لا تفي بحاجتهم!

لقد عاش الأئمة في ترف ارستقراطي باذخ، عيشة الملوك، في الوقت الذي كان الشعب اليمني يتضور جوعا وفقرا مدقعا، جيلاً بعد جيل، تنهشهم أمراض القرون الأولى! فهذا الإمام المنصور كما ذكر المؤرخون عنه أنه كان يميل إلى حياة الدعة والترف والاسترخاء، ابتداء من اهتمامه بشراء الأراضي والبيوت لبناء الدور والقصور وتوسيعها، إلى تعدد زواجه وحفلات أعراسه التي يصرف عليها المبالغ الطائلة، وحبه في التنقل بين قصوره، وإقاماته الطويلة لغرض الراحة والاستجمام في بيوت أبنائه وأصدقائه، وتنزهاته الكثير في الوديان والمناطق المجاورة لصنعاء."

 

ومن الدور التي عمرها الإمام المنصور علي "دار البهمة" في بير العزب بصنعاء، أنفق عليها من الأموال الشيء الكثير، وكانت محل استنكار البعض، وخاصة من رجالات الدين الذين نصحوا الإمام، فغضب لنصحه، وخرج العلامة إبراهيم بن محمد الأمير بعدها إلى مكة فارا من غضب الإمام، حيث قضى بقية عمره هناك، وبمجرد انتهاء الإمام من بناء هذه الدار تزوج وأقام فيها إحدى حفلات أعراسه الكبرى.

 

 ولم يكد يفرغ منها حتى انتقل إلى بناء دار أخرى لا تقل عنها جمالا وبذاخة، هي دار الإسعاد بالطواشي التي اشترى من حولها القصور والدور الأخرى ثم هدمها بغرض توسعتها، مستمرا في تشييدها خمس سنوات متواصلة، وقد وصفها المؤرخون وصفا عظيما، قال عنها صاحب "حوليات يمانية": "لا يوجد مثلها في جميع الأقطار، فقد رأينا أكثر البلدان والبنادر فما لها نظير، وفيها أماكن ثلاثمئة وستون مكانا، وكان كل مكان بحاجته، فيه مما يليق به، وهكذا كل دار.

 

 وأما البساتين فما هي إلا جنات" كما قال عنها أيضا المؤرخ عن هذه الدار: "فيها من البناء العظيم والزخرفة الباهرة، وكان في هذه الدار ثلاثمئة وستون منزلا، وكانت هذه الدار لم توجد مثلها في اليمن، وكان يُضرب بها المثل في غاية البناء وإتقان الزخرفة، وفيها من الأحجار النفيسة والفصوص العزيزة الثمينة، منها أن المنصور علي بن المهدي عباس عند بنائها اشترى صباغات لتلك الدار بسبعين ألف ريال وستمئة وخمسين ريالا".

 

وفي هذه الأثناء ـ أيضا ـ عمل على تشييد "دار الصافية" بحي بير العزب بصنعاء. كما انشغل بعد ذلك بتشييد "دار الفتوح" وسط صنعاء، في الوقت الذي بنى نجله أحمد "دار الذهب" ثم انتقل الإمام إلى الروضة وشيد دار الروضة، وعاد إلى صنعاء لتشييد قصر آخر في البونية، وكان "دار الحجر" في وادي ضهر غربي صنعاء آخر دار شيَّده، ولا يزال إلى اليوم معلما سياحيا ساحرا، وفيه من فنون العمارة ما يعجز الواصف عن وصفه، والمستمع عن استيعابه! 

 

وعودة إلى الإتاوات والمكوس التي يفرضها الأئمة، فقد كانت المقياس الحقيقي للولاء والشرعية من وجهة نظرهم، وقد ذكر المتوكل إسماعيل أن تسليم الرعية للحقوق واجبة حيث نفذت أوامر الإمامة أو لم تنفذ؛ أما عدم تسليم المكوس والإتاوات والضرائب فيؤدي إلى بطلان الإمامة، ونكسها على الهامة كما يذكر! في الوقت الذي لا يقابل هذه الالتزامات أية حقوق أخرى على الإمام تجاه رعيته، ولذا فقد كان هؤلاء الحكام أئمة وملوكا في نفس الوقت جراء الأموال المهولة التي تحصلوا عليها من الرعية بهذه الطريق! 

 

ولم تقتصر تصرفاته هذه على المسلمين فقط؛ بل وأيضا اليهود "الذميين" فاتخذ ضدهم سلسلة من الإجراءات العقابية القاسية حين شاعت فكرة "المسيح المخلص" في صنعاء، في رجب 1075هـ، فاعتقل زعماءهم وعذبهم وسجنهم، ومنعهم من لبس العمائم، وألزمهم بدفع نصف محصولاتهم، ثم صادر أموالهم كاملة بعد ذلك، وأبطل عقد الذمة المبرم بين اليهود والأئمة سابقا، وحكم عليهم بالعبودية بعد أن كانوا ذميين.

 ولم يتوقف الأمر عند ذلك بل وجه المتوكل إسماعيل لاحقاً بطرد اليهود وإخراجهم من صنعاء، وهو في مرض الموت قبل وفاته، واستكمل ابنه المهدي أحمد المهمة من بعده، واقتحم الكنيسة اليهودية بصنعاء، فمزق كتبها وأحرقها ودمر مقتنياتها، وهدّم المبنى وأراق الخمر، وبنى مكانه مسجد الجلاء المعروف اليوم هناك، مع أن مبنى الكنيسة قد تم إنشاؤه قبل الإسلام، وقد أجبر اليهود بين خياري الإسلام أو الرحيل من صنعاء، فاختاروا الرحيل، فطردهم إلى موزع قريبا من المخا!

 

 لقد جمعت الإمامة في نظام حكمها لليمن في نموذج الإقطاع الديني العربي والكنسي، فمفهوم وثقافة الخراج في التعامل مع الأراضي المفتتحة بحد السيف مفهوم عربي، حيث كان المسلمون يعتبرون أي أرض للكفار فتحت بحد السيف أرض خراجية يأخذون منها نصف الغلة أو أقل، ويعتبرون شركاء لأهلها، وبالمثل تعاملت الإمامة الرسية مع اليمنيين باعتبارهم كفار تأويل، فجعلت أرضهم في حكم الأرض الخراجية، فقد أمر عبدالله بن حمزة عماله على اليمن الأسفل أخذ نصف الغلات، ومثله فعل المتوكل إسماعيل ويحي حميد الدين وأغلب الأئمة، بل إن المتوكل إسماعيل قال لعماله على اب وتعز وتهامة والبيضاء وريمة وغيرها قال لهم" إذا استطعتم أن تغالطوهم فتأخذوا ثلثي ما بأيدهم فافعلوا".

 

وأما النموذج الأخر فهو الإقطاع الأوروبي الكنسي الذي انتهجته الكنيسة الأوتوقراطية في العصور الوسطى، وكان سبباً رئيساً لقيام الثورات الأوروبية ضد الكنسية، وهي الثورات التي ذهب ضحيتها أكثر من 300 ألف أوروبي، حتى تحررت جميع شعوب أوروبا من حكم الكنيسة والبابا، ومنعت الكنيسة من التدخل في السلطة والشئون السياسية بشكل نهائي، حيث كان الإقطاع الكنسي قائم على أساس الشراكة بين الكنيسة والملاك في نظام الإقطاع، فتقسم الأراضي إلى مقاطعات لكبار الملاك بالشراكة مع الكنيسة، ومن الملاك والكنيسة يتشكل النظام العام ويكون الملوك، فيما اعتبرت الشعوب كلها خدماً وعبيداً ورقيق يعملون في فلاحة الأرض مقابل أن يأكلوا ويشربوا، وليس لهم أي حقوق أخرى، وكان هذا دافع رئيس لثورة أوروبية شاملة اقتلعت نظام الكنيسة والإقطاع، فكانت أكبر معارك التاريخ الأوروبي، ورفعت الشعوب الأوروبية شعار" اشنقوا أخر قسيس بأمعاء آخر اقطاعي".

 

وهذا النظام الفيدالي الإقطاعي استنسخته الإمامة إلى اليمن، وأقامت على شاكلته نظام الإقطاع الإمامي تحت مسمى "القبال"، حيث كانت تستقطع عمالها ومشائخ القبائل الشمالية مناطق ومحال وألوية وأقضية في مناطق وسط وشرق وغرب وجنوب اليمن، وكان هؤلاء الإقطاعيون الطفيليون يتعاملون مع الرعية المواطنين في هذه المناطق كأرقاء وعبيد يعملون في فلاحة الأرض ويعطون نصف غلاتها وأكثر مكرهين لعمال الإمام وعكفته من قبائل الفيد، وفي حال تمنعوا عن دفع ما هو مطلوب منهم سنوياً، تأتيهم الحشود القبلية المقاتلة بأمر الإمام وعماله، فتبيد خضرائهم، وتنهب أموالهم، فلا تبقي ولا تذر.

 

ولم تنتهي هذه الإشكالية والثقافة الإقطاعية مع ثورة سبتمبر 1962م، بل ظلت تأثيراتها قائمة على مدى خمسة عقود من حكم الجمهورية، ولم يكن غريباً أن تبرز المشكلة بعد الثورة من جديد، وأن تتخذ في بعض الأحيان شكلا حاداً، فقد سقط الحكم الذي كان يشكل العدو المشترك لكل الطوائف وكل فئات الشعب ولكن بقيت الكثير من الأنظمة والأساليب التي اعتمدها الحكم السابق والتي تحمل جذورا من ثقافة الإمامة والإقطاع، وتثير الاحتكاك والنزاع الطائفي، والصراع الطبقي.

 

لقد ظلت هذه الثقافة والأساليب الاستغلالية في انتظار الإلغاء والتصفية النهائية، وبالنقابل ظل أصحاب الامتيازات الطبقية والطامحون إلى السلطة يغذون الطائفية ويتشبثون بها، خوفاً على امتيازاتهم وتحقيقاً لمطامحهم الخاصة... وكانوا يعملون على حجب الصراع الطبقي وتسكينه وإخفائه تحت ستار الصراع الطائفي. 

 

والأدهى من ذلك ظلت دول الاستعمار الطامحة بالعودة تنظر إلى الطائفية كسلاح ضد النظام الجمهوري الثوري، وكأخطر وآخر سلاح يلجأ إليه عند فشل الاستعمار المسلح.

 

  وقد رأينا سابقا كيف عمد الغرب في اليمن إلى استغلال الروح الطائفية ودعمها بعد ثورة سبتمبر ٦٢، بعد أن فشلت المحاولات لإعادة الإمامة والقضاء على الجمهورية بحد السلاح.