آخر تحديث :الجمعة-29 مارس 2024-05:58ص

في الذكرى 30 للوحدة اليمنية المجيدة

السبت - 23 مايو 2020 - الساعة 07:43 م

علي البكالي
بقلم: علي البكالي
- ارشيف الكاتب


 

 

اليمن عبر التاريخ كل لا يتجزأ مهما جرت الاحداث، ومهما تعددت السلطات، ذلك أن اليمن ليس مجتمعاً طارئاً، ولا حدثاً عارضاَ، ولا توليفاً غير متجانس من الشعوب والمجتمعات المعاصرة التي يمكن رؤية تمزقها بسهولة عند أول اختلاف سياسي.

إن اليمن في الحقيقة هو ذلك الوجود التاريخي الحضاري الإجتماعي الأبدي في جنوب الجزيرة العربية، ينحدر كله من أصل واحد، ويعيش بكبريائه التي تتعالى على الجروح صامداً عبر التاريخ في مقامه الجغرافي المقدس.

لم يعرف العالم كله عبر حقبه التاريخية المتباعدة شعباً في الجزء الجنوبي لشبه الجزيرة العربية سوى شعب اليمن الموحد المتمسك بهويته وثقافته وتاريخه.

عبر ما يزيد على 6 ألف عام مرت اليمن بفترات ضعف تراخت فيها الدولة المركزية فتحصلت الأطراف المتصارعة على ما يشبه الفدرالية، وأحياناً أعلنت سلطنات ومقاطعات مستقلة لفترة من الزمن، لكنها ما برحت أن اختفت فجأة، وظلت اليمن هي ذاتها هوية وتاريخاً ووجوداً حضاريا واجتماعياً، بل إن أواصر القربى بين اليمنيين مهما حدثت من حروب وصراعات وانقسامات، تظل هي ذاتها تلك الأواصر الثابتة المستقرة عبر آلاف السنين.

في التاريخ القديم وبعد تراخي سلطة الدولة العظمى للتبابعة المخلدون، انقسمت اليمن إلى خمس دويلات، وكل دولة وسمت نفسها بمسميات مختلفة، ولكن الشعب اليمني ظل هو ذاته لم يتغير، واليمن ظلت هي الوطن الأكبر الذي ذاب فيه جميع الدويلات، وعادت دولة تبابعة اليمن الحميريين من جديد، وظلت صامدة حتى لحظة الإسلام.

وفي العصور الوسطى حاولت الطائفيات والمذهبيات تقسيم اليمن إلى دويلات بلافتات طائفية، لا تمت لليمن وهويتها التاريخية بصلة، ورغم طول فترة عصور الظلام الوسيط، والانقسام اليمني بسبب سلطة الإمامة العنصرية الوافدة، ونقائضها المستوردة -أيضاً- ورغم ما دمرت وأهلكت من مقدرات اليمن وشعبه العظيم، إلا إن الشعب اليمني أثبت واحديته ووحدة منبعه وهويته ووجوده من جديد في 26 من سبتمبر1962م و 14 من اكتوبر1963م، فالشعب اليمني الذي خرج ضد الإمامة في الشمال، هو ذاته الذي ثار بوجه الاستعمار البريطاني في الجنوب، وهو ذاته الذي هتف للوحدة الوطنية ورفع لوائها وشعارها منذ مطلع خمسينيات القرن العشرين في عدن وصنعاء وكل مناطق اليمن.
لقد كانت الوحدة الوطنية في الأساس مشروع الشعب اليمني في تاريخه المعاصر جنوبه وشماله، فالحدود التي رسمها الاستعمار والعثمانيين في مطلع القرن العشرين لم تكن سوى توزيع لخارطة النفوذ والمصالح الاستعمارية في اليمن، وإذا كان العثمانيون قد ورثوا نفوذهم لإمامة عنصرية طاغية، ممثلة في بيت حميد الدين، حاولت أن تصادر هوية اليمن ووحدته الوطنية، فإن الاستعمار البريطاني قد ذهب لاقتطاع جنوب اليمن ومحو هويته، بإلحاقه بالتاج البريطاني، تارة تحت مسمى (اتحاد سلطنات الجنوب العربي)، وأخرى تحت مسمى(رابطة أبنا الجنوب، وعدن للعدنيين)، غير أن الشعب اليمني الذي عرف نفسه جسداً واحداً عبر التاريخ، أطاح بالإمامة والاستعمار معاً، واستعاد هويته الحضارية ومشروعه التاريخي ووحدته الوطنية.

إن الوحدة اليمنية اليوم - رغم الآلام - ليست كما يتصورها البعض مكسباً وطنياً، بل إنها حقيقة التاريخ والوجود بكل معانيه، فاليمن ليست شعوباً مؤتلفة في كيان سياسي، ولا مجتمعات آلفت بينها المنفعة والضرورة، بل هي الوجود التاريخ الأصيل المستقر في بيئته، والشعب الواحد المتصل نسباً وزمناً وجغرافيا عبر آلاف السنين.

قد يفترق اليمنيون في لحظات الضعف بسبب صراعات النخب السلطوية، تلك الصراعات التي في الغالب تخلق ظواهر من النزوات والأصوات والشعارات، غير أن تلك الظواهر العارضة لا تعبر عن حقيقة الشعب اليمني، ولا عن هويته ووجوده، بقدر ما تكشف مساوئ النخب وعورها السياسي.

ثمة مؤشر يمكن أن يراه المراقب للوضع اليمني وتقلباته في مراحل شتى، يكشف وجه العلة لكل ظواهر الصراع السياسي والنزق الجماهيري، يتمثل في ثلة النخب المتسيدة التي تتشكل من بقايا عقلية الطبقات والاغتراب الثقافي، تجمع بين الأنانية المفرطة والقابلية للارتهان للخارج، وحينما تصل إلى لحظة النهاية في صراعاتها السلطوية، تستخدم الثوابت والمكتسبات الوطنية كأدوات أخيرة للإنتقام، فتتسبب بتمزقات وشروخات عميقة في الكيان الاجتماعي، لكنها في نفس الوقت تودع نهاياتها البئيسة بعقلية الفيد والغنيمة، وفي تلك اللحظة وحدها ينتزع الشعب اليمني منها قراره وإرادته الحرة.

إن شعور الشعب اليمني من أقصاه إلى أقصاه بواحدية الوجود والمصير والثقافة هو ما نسميه بالوحدة الوطنية، وليست وحدة الجغرافيا والتراب إلا انعكاس لهذه القيمة الثابتة والراسخة في وجدان وشعور كل يمني، والمنقوشة في جبال الوطن وصخوره وقلاعه وحصونه، وإن نزوات المصالح، واندفاعة العواطف في لحظات الضبابية، لا تعكس في الحقيقة سوى حالة من فوضى النخب التي استنفذت كل أدواتها الذاتية في الصراع، وأتت على قيم الوجود الحضاري للشعب لتجعل منها آخر ما تبقى في قوسها، ولكنها لا تستطيع مغالبة سنن التاريخ بقدر ما تعلن عن لحظة الرحيل الأخير.

لقد تحققت الوحدة اليمنية في الأصل يوم ال 26 من سبتمبر المجيد، وال 14 من أكتوبر بإنهاء سلطتي الإمامة والاستعمار بكلمة موحدة، شارك أبناء الجنوب ثورة صنعاء ضد الإمامة، فكانت عدن المنطلق الأول لتنظم الأحرار بقيادة الزبيري والنعمان، وشارك أبناء الشمال ثورة عدن ضد الاستعمار، فكانت صنعاء المنطلق الأول لتحرير الجنوب، بقيادة قحطان الشعبي ورفاقه، ولم يكن يوم 22 من مايو سوى تتويجاً لذلك النضال الطويل الذي سجل تلاحم الشعب قبل السياسيين والنخب ذات الحسابات والمصالح.

إن حقائق التاريخ المعاصر ستظل تكتب نضالات أبناء جنوب اليمن من أجل الوحدة على مدى أربعة عقود بأحرف ساطعة، غير إن اختلاف موارد النخب السياسية ومصالحها، قد جنى على تاريخها السياسي، كما جنى على الوطن والشعب والنسيج الاجتماعي، وخلق جملة من الاختلالات لا تزال تفتح الأبواب لتدخلات خارجية تفكيكية ومطامع جيواستراتيجية، تستثمر النزق اللاواعي لتدمير حاضر اليمنيين ومستقبلهم بأيدهم.

يستثمرون نزق جيل تائه في مزالق الصراع والعنف والفوضى والفقر لإنهاء قوة اليمن وحضورها على الخارطة العالمية، ليصبح الإنسان اليمني بلا دولة بلا وطن بلا مأوى بلا مقدرات بلا هوية.