آخر تحديث :الجمعة-19 أبريل 2024-09:05م

قم للمعلم ... قم للجنيدي !

الخميس - 22 نوفمبر 2012 - الساعة 11:13 ص

علي ناصر محمد
بقلم: علي ناصر محمد
- ارشيف الكاتب


كلما تذكرت قول أمير الشعراء أحمد شوقي : "قم للمعلم وفه التبجلا ، كاد المعلم أن يكون رسولاً" جاء في خاطري أنه كان يقصد معلماً جليلاً كالسيد المربي الفاضل السيد عبد الله محمد الجنيدي (رحمه الله تعالى) وأمثاله .

من بين كل المعلمين الذين عرفتهم، وقد عملت فترة من حياتي مدرساً في مدرسة مودية ثم في المدرسة المحسنية في الحوطة بلحج، اعتقد أن وصف شوقي ينطبق عليه أكثر من غيره دون أن يكون في ذلك أي انتقاص من السادة المعلمين الأَفاضل في أي مكان من الدنيا، وقد كنت واحداً منهم ذات يوم ، عاصرت السيد الجنيدي حين كنا مدرسين معاً في نفس المدرسة في مودية في بداية الستينيات من القرن الماضي ، أما هو قد كان أول مدرس في مدارس مودية في ولاية دثينة وذلك منذ سنة 1943م ، فتتلمذ على يديه جيل كامل من ابناء المنطقة ممن اصبحوا بعد ذلك قيادات ووجاهات مرموقة في اليمن الديمقراطية والذين نهلوا من علمه ومعارفه وخبرته الكثير الكثير ، وكانت مودية قد غدت شعلة ومنارة للعلم والثقافة لارتباط أبنائها بعدن قائدة النهضة العصرية الحديثة ، وبالمهجر وكان الرجل الاصلاحي الكبير محمد سعيد الظهر أول من ادخل التعليم الى مودية وشجع على تعليم البنات فيها ... وكان من نتائج دخول التعليم الى المنطقة أن تخرج جيل من المتعلمين الذين تحملوا أعباء التدريس فيها ، ومن ثم اعباء العمل الوطني والسياسي ... ومن هؤلاء حسين الجابري والشيخ سميح ، وعبد الرحمن خباره ، ومحمد سليمان ناصر ، وابو بكر القطي ... وسواهم وكاتب هذه السطور ، إلى جانب آخرين اشتغلوا في حقل التربية والتعليم في مودية أمثال سالم علي كراد ، وعبد الله حسين العروس ، واحمد محمد علي شيخ ، ومحمد الصالحي ، وسعيد خباره ، وناصر سعيد هيثم ، وناصر عبد الله الرباش ، وعلي مسعود التوم ، وعلي عوض ، وعبد الله عنبر ، وعلي حسين مذهل.

حزنت كثيراً لوفاته ، وجالت في ذهني على الفور ذكريات جميلة عنه ، ومواقف ظريفه اختلطت بمشاعر الحزن الجليل ... فحياته الطويلة التي استمرت نحو 120 عاماً حتى رحيله في يوليو 2012 ملأى بالدروس والعبر وخبرة الحياة التي لا غنى عنها .

 

كان ذلك الجيل من أبناء دثينة محظوظاً اذ تلقى معارفه الأولى على يدي معلم فاضل مثله ، وكل ما اكتسبوه بعد ذلك يعود الفضل فيه –بعد الله- اليه اذ شع بنور علمه على اجيال متعاقبة في تلك المنطقة النائية التي كانت مسرحاً لحروب قبلية دامت احداها أكثر من أربعين عاماً فيما عرف "بحرب شمعة" التي تحاكي في عنفها وطول امدها وتراجيديتها حرب البسوس التي كانت من اجل فرس فيما كانت حرب طروادة المعروفة من اجل فتاة اسمها (هيلين)

ذكرياتي عنه كثيرة في السنوات التي عايشته فيها عن قرب ، أو عما سمعت من مآثره ونوادره التي اختزنتها ذاكرتي ... ولكن بالرغم مما احتشد فيها من وجوه وأحداث وذكريات وتجارب يطل من بين ثناياها وجه المغفور له السيد عبد الله الجنيدي كأن الذكرى طوع بنانه ، أو كأنه نسيج وحده لا ينسى ، فصورته لا تغادرني وان غادر الدنيا الى دار الأبدية.

أحقاً قد رحل ؟!

ماذا اكتب عنه بعد ان اصبح ذكرى جميلة ، وحزناً مقيماً ، وكان بالامس واقعاً ، وعالماً ممتداً ، وعلامات ، واشارات في عالم لا محدود يكبر ولا يهرم لانه عاش ويعيش في كل الأَجيال التي علمها ودَّرس لها فانتشر وينتشرون في الارض ليبنوا عليها احلامهم ومدنهم الفاضلة حتى وان اخفقوا او حادوا لبعض الوقت عن الطريق ولكنهم لايزالون سائرين فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر

لعل أكثر الناس الذين يتركون اثراً في حياة الناس أولئك الذين يعطون لغيرهم دون أن يأخذوا ، اولئك الذين يعيشون ويمرون كالظلال كأنهم لم يكونوا بيننا رغم ما عاشوه من عمر طويل وحياة مديدة لكنهم يؤدون رسالتهم السامية في الحياة ولا ينتظرون الجزاء أو الثواب إلّا من الله .

وفي سبيل أداء رسالته هذه كان مستعداً أن يفعل المستحيل ، حتى لو تقنع بأكثر من وجه وارتدى اكثر من ثوب وتقمص أكثر من شخصية طالما كان الهدف نبيلاً ، والغاية سامية ، وقد فعل ذات مرة عندما تطلب منه الأمر ذلك ولم يتردد في أن يرتدي في كل حالة ملابس غير مألوفة ، مرة ملابس البدوي ، بالنيل الاسود ، واخرى ملابس العربي  التقليدية (القفطان والعمامة)، وثالثة الملابس الافرنجية ولكن معتمراً الكوفية والعقال ليؤدي دور المدرس ، وكانت المناسبة التي استدعت منه لعب هذه الادوار في وقت واحد زيارة قام بها الى مدارس دثينة احد المسؤولين البريطانيين في معارف مستعمرة عدن

غير أن المسؤول الانكليزي الذي كان يوثق زيارته لمدارس المنطقة الثلاث بالصور والملاحظات لم ينطل عليه الأمر ، فحين تطلع في الصور التي كان يلتقطها للمدرس المتنكرر بزي مختلف في كل مرة ، تيقن من أن نبرة صوته هي ذاتها في المدارس الثلاث في الخديرة ومودية وأمقليته التي زارها تأكد له انه شخص واحد .

وحين صارح الاستاذ أحمد علي مسعد مدير معارف دثينة بشكوكه أكد له وهو يغالب ضحكه، أنهم لجأو إلى هذه الحيلة حتى لا يفسدوا عليه زيارته لان المنطقة تعاني من نقص شديد في المعلمين فعلاً ...

المسؤول البريطاني عاد الى عدن وفي ملفه الصور الثلاث التي التقطها للسيد الجنيدي وارفقها بتقريره الذي ولا شك أنه قدمه لمن هو ارفع منه ، وفيه توصياته كدليل على حاجة المنطقة إلى مزيد من المدرسين

هل بوسع أحد من مدرسي اليوم أن يقوم بهذه الأدوار ؟!

أو حتى بمقدور أحد من مدرسي الأمس أن يؤديه على ذلك النحو

هذا ما يعجز عنه حتى اكثر الممثلين احترافاً

أين هم ... وأين هو ؟!

هو مثل النهر مهما اغترفت منه لا يرتوي ولا ينضب ...

اتذكر حادثة اخرى ، كنت شريكاً فيها هذه المرة لا مجرد مستمع للرواية ... فقد عينت مدرساً في نفس المدرسة في مودية ثم مديراً لها حيث كان السيد محمد عبد الله الجنيدي مدرساً فيها منذ بداية اربعينيات القرن الماضي .

لا ادري ما الذي صور لي ولزملائي المدرسين الأقل سناً منه اننا نستطيع أن نمازحه ؟! ربما لأن في شخصيته شيء من البساطة ، او الظرف ، او اللطف ، او كلها مجتمعة بحيث يوحي لك بأنه قريب الى القلب فلا تعود تفرق بين هيبته وسجيته حتى تجرأنا على ممازحته على ذلك النحو ...

الواقعة كلها جرت دون تخطيط مسبق ، بل كانت وليدة اللحظة ذاتها ...

ذات مساء استيقظنا على صراخ زميل لنا بعد ان فوجئ بثعبان في المكان الذي كان يقضي فيها حاجته في الخلاء ... هرعنا اليه ، وقد اعتراه الهلع الشديد ، وقمنا بقتل الثعبان وانقذنا صاحبنا من موت محقق ...

في لحظات تحول الموقف الشبه مأساوي الى كوميدي ، هنا لمعت الفكرة التي نفذناها على الفور ، حملنا الثعبان المقتول الى مكتب السيد الجنيدي ووضعناه في درج الذي اعتاد ان يغلقه بالمفتاح ، وكان رحمه الله يضع الترمس والكاتورة التي يضع فيها فطوره.

في الصباح عندما فتح درج مكتبه فوجئ برأس ثعبان يطل منه ... ولشدة المفاجأة جمد في مكانه ولم يتبين ان كان حياً او ميتاً ... هرعت الى خارج الغرفة حتى لا انفجر من الضحك وينفضح أمرنا في حين بقي السيد الجنيدي مسمراً في مكانه غير قادر على الحراك واخذ يصرخ بالعربية الفصحى : ثعبانٌ ... ثعبانٌ ... ثعبان !

وحتى نحبك الخدعة جئنا بعصا واخذنا نضرب الثعبان الميت حتى نوهم السيد الجنيدي بأنه حي فعلاً

ولم تجدِ كل محاولاتنا لكي نقنعه بأن الثعبان ربما تسلل الى درج مكتبه أو جاءت به قطة في الليل ! واخذ يقول بلغته الفصحى التي يحرص على استخدامها : ومن أين للقطة بمفتاح المكتب ؟! .... ولماذا اختارت مكتبي بالذات ؟! ... بينما نغالب نحن الضحك . المهم أن السيد لم يتقبل المزحة التي اردناها لمجرد التسلية وظل يردد : اليوم ثعبان وغداً قنبلة !!

وتمر الأيام ... ويجيء زمن الحرية والاستقلال اللذين حلمنا بهما ، وناضلنا في سبيلهما بالأمس حتى وصلنا إليهما عبر كفاح ونضال طويل ومتاعب خاضه شعبنا في الجنوب ضد الاحتلال البريطاني ...

اصبحت مسؤولاً في الحكومة الجديدة في العاصمة عدن ، ودعوت السيد الجنيدي على الغداء في منزلي في المعلا

جاء السيد قبل الموعد المحدد بوقت حتى لا يتخلف لكثر احترامه للمواعيد والوقت والنظام لكنه لم يدخل البيت بل احتبى أمام الباب كـأي بدوي دون أن يبالي بنظرات المارة وتعليقاتهم الممزوجة بالضحكات في مشهد لم يألفوا مثله في عدن حتى تحين الساعة الواحدة ظهراً وهو الموعد الذي ضربته له ..

حين جاء اخي أحمد ووجده قابعاً عند مدخل البيت رحب به ودعاه لدخول المنزل ، لكنه اعتذر بلباقة وهو يشير الى ساعته قائلاً :

لم تبلغ الواحدة بعد ... وانا رجل احب الالتزام بالنظام واقدس المواعيد ...

ترى كم منا يأتون اليوم بدون مواعيد ؟!

وكم منا يتأخرون عن مواعيدهم عدة ساعات ؟!

انه جيل غير الجيل ...

واشخاص غير الشخصيات ...

وزمن غير الزمان ...

ما اصعب زمانهم واسهله ....

وما اسهل زماننا واصعبه ...

تلك هي المعادلة

وتلك هي بساطة المعلمين

 

وما اصدق شوقي اذ قال :

قم لمعلم وفه االتبجيلا                     كاد المعلم ان يكون رسولا