ليس جديداً أن يلجأ أمين عام «حزب الله» حسن نصر الله إلى لغة التهديد والوعيد. منذ عام 2006، بات التهديد هو سلاحه الأكثر استعمالاً، بل شبه الوحيد، في مواجهة إسرائيل، فيما البندقية والرصاص والصواريخ وجهتها الشعب السوري. هدّد سابقاً بقصف خزانات الأمونيا، ثم هدّد بضرب مفاعل ديمونا. للفعلين الآنفين مفعول قنبلة نووية، علما بأن السلاح الدعائي الإيراني هو تحريم السلاح النووي بموجب فتوى غير مدونة تنسب للولي الفقيه. تقول إيران إنها لا تسعى لامتلاك السلاح النووي لأنه حرام، ولا يتردد نصر الله في التهويل بنووي غير مباشر، ستكون له النتائج والتبعات المحرمة نفسها. لا يهم. منذ زمن لم يعد نصر الله يهتم باتساق منطقه، وهذا ليس جديداً أيضاً.
الجديد هو تهديده إسرائيل، في خطاب يوم القدس الأخير، بأنه في أي حرب مقبلة مع «حزب الله»، فإن مئات آلاف المقاتلين ستُفتح لهم الحدود لمقاتلة إسرائيل من العراق واليمن وإيران وأفغانستان وباكستان! حشد شعبي أممي، يستكمل عملية إلغاء لبنان وإسقاط دولته.
استسهال تهديد من هذا النوع ربما يكون مرده أن «حزب الله» يعلم أن إسرائيل ليست الآن في وارد فتح جبهة معه. لا «حزب الله» يجرؤ على شن حرب يكرر مسؤولوه بإصرار أنهم لا يريدونها، ولا إسرائيل راغبة في دفع تكاليف توجيه ضربة له، وهي تراه يعمل بآلية التدمير الذاتي في سوريا وغيرها.
لكن هذا الاستسهال فضح ملامح، حرص نصر الله على تغطيتها بكثير من اللغو والتهديد والوعيد سابقاً. لطالما أصرّ «حزب الله» على أنه قادر على مواجهة إسرائيل رغم انشغالاته السورية، وأن جهوزيته تجاه إسرائيل غير منتقصة بفعل أولوية معركة حماية بشار الأسد. إذّاك، يُطرح السؤال: لماذا يحتاج «حزب الله» لمئات آلاف المقاتلين الأجانب لإسناده في معركة، صمخ آذاننا باستعداده لها؟ لماذا يعترف نصر الله، من حيث لا يريد، بأن حزبه ليس كافياً أو قادراً وحده على الحرب المقبلة؟
مفجع أن يعبر نصر الله بيسر عن تواضع قواه العسكرية، وحاجاته لحشد شعبي أممي، وهو يحاجج إسرائيل، فيما يتنافخ على مواطنيه اللبنانيين وجيرانه العرب. تواضع مع إسرائيل واستكبار على من لا ينبغي أن تكون بينه وبينهم عداوات أكبر من عدائه لإسرائيل.
حين انخرط «حزب الله» في الجريمة في سوريا، تذرع بأنه يحمي السيادة اللبنانية، ويبذل الدماء للدفاع عن لبنانيين ناكرين للجميل لا يرون المصلحة التي يراها هو لهم. فهل الحشد الشعبي الأممي الموعود يندرج هو الآخر في مهمة حماية لبنان واللبنانيين وسيادة وسلامة بلدهم؟ أم أن خطاب السيادة مجرد استعارة وقحة لخطاب خصومه وتجييره لصالح مشروعه ومشروع إيران؟
السؤال الأكثر بديهية الذي يطرحه الخطاب الأخير هو التالي:
قبل الحشد الشعبي الأممي، ألا يحتاج نصر الله لحشد شعبي لبناني، يسانده في الحرب المقبلة؟ الحقيقة، أن نصر الله لطالما كرر أن المقاومة لا تحتاج إلى إجماع وطني، بل إنها لم تحُز هذا الإجماع في تاريخها، وبالتالي هو ليس معنياً بأكثر من الإجماع الميليشياوي، أي إجماع مكونات الحشد الأممي، ومرجعيته الإيرانية.
ما يفضحه الاستسهال أيضا، هو مقولة الدولة التي ينتحلها نصر الله في كل خطاباته. لا يريد دولة، من يعد مواطني الدولة بمئات آلاف المقاتلين الأجانب في معركة لا يملكون حيال قرارها إلا التسليم. على بديهية هذا الاستنتاج إلا أنه في العمق هو الفيصل بين لبنانين اثنين. بين لبنان الذي يريده نصر الله مرتعاً لمئات آلاف المقاتلين الأجانب و«اللبنان الأغلبي»، أي أغلبية ناسه الطبيعيين، من مختلف الانتماءات السياسية، الطامحين إلى مئات آلاف السياح. بهذه البساطة.
خطورة كلام نصر الله أنه يوفر كل الحجج للمجتمع الدولي ومنطق مؤسساته، للقول إن لبنان دولة فاشلة من جهة، ولإسرائيل لتقول إنها تخوض حرباً استباقية، لو قررت، ضد لاعب يجاهر بأنه سيجلب مئات آلاف المقاتلين الأجانب لمحاربتها في أعلى لحظة استنفار دولية ضد إرهاب الميليشيات غير النظامية.
مثل هذا الوعيد لا يردع، بقدر ما يوفر أسباباً إضافية لإسرائيل لتمارس ضد لبنان ما يبقي هذا البلد منهكاً وضعيفاً، وعاجزاً عن استثمار مقدراته الطبيعية والبشرية ليكون منافساً لإسرائيل.
أي سعادة في تل أبيب بعد هكذا خطاب.
افتراض أن هذا الخطاب يردع إسرائيل هو مزحة سمجة، وخرافة.
في الوقت الذي يعدنا حسن نصر الله باستقبال مئات آلاف المقاتلين من الميليشيات العراقية والسورية والإيرانية واليمنية والأفغانية والباكستانية، تعلن إسرائيل الأرقام السياحية التالية:
منذ بداية عام 2017 دخَّلت إسرائيل أكثر من ملياري دولار من السياحة، وزارها في الأشهر الخمسة الأولى من العام نحو مليون ونصف مليون سائح، منهم 347 ألف سائح في شهر مايو (أيار) وحده.
وتعكس الأرقام رعباً من نصر الله وحزبه والميليشيات العراقية والسورية والإيرانية الموعودة، بحيث زادت السياحة 25 في المائة عن أرقام العام الماضي.
نصر الله يعدنا بالمسلحين، ونحن نحلم بالسياح، وإسرائيل تنعم باستقبالهم وعائدات استقبالهم.
* نقلا عن "الشرق الأوسط"