آخر تحديث :السبت-20 أبريل 2024-02:59ص

لحج ..عابرة المحن صانعة الحياة رغم مايسكنها من الموت !

الثلاثاء - 26 مايو 2015 - الساعة 05:45 م

جاكلين أحمد
بقلم: جاكلين أحمد
- ارشيف الكاتب


 

لم أكمل اليومين من عمري عندما عادوا بي الى لحج، كنت لا أعي شيء من الدنيا ولا تميز حواسي حتى الهواء ولونه من حولي ،كانت لحج باكورة أيامي ، وترابها حناء أقدامي التي عانقتها ببرائة الأطفال ، لم تطل طفولتي في لحج غادرتها وانا في الصف الثاني نحو كريتر ، لكني مازلت أذكر مدرستي (القومية) التي تغير اسمها لاحقا كما فعلوا مع كل شيء في الجنوب ،مازلت اذكر حملات التحصين وهروبي وكل محاولاتهم لإقناعي ،

 

لم تكن لحج مجرد محطة حياتية ،بالقدر الذي اصبحت فيه إمتداد لعمر لاحق ، في تلك السنوات بنت الايام في ذاكرتي الكثير من الاحداث المهمة منها الجميل وما اقله واكثرها القاسي الذي لازال يرافقني حتى اليوم ،لحج تصدرت عناوين حياتي العريضة ،فهي حمامة السلام ،وباعثة السكينة في قلقي وخوفي .

 

كان جدي الحبل السري الذي ربطني بلحج ، عاشقها الذي لايغادرها حتى يعود اليها سريعا ، ولا ادري ايهما وطن الاخر ،كان بيته المتواضع احب الأماكن الى قلبي ، تلك ( المربعة ) الغرفة التي لا أشعر بالنوم الجميل الا فيها ، ومازلت الى اليوم حقيقة لا أنام مطلقا كما أنام على أرضها ،رغم ان الجميع رحلوا عنه واولهم جدي .

 

لحج لم تكن بالنسبة لي مجرد ذكريات طفولة او عبق من الماض هي ايضا أمنيات المستقبل التي سكنتني بأن امتلك مزرعة صغيرة فيها وبيت ريفي متواضعا أختبىء فيه كما كنت اهرب الى لحج كلما ضاقت بي الدنيا ،كنت ات اليها بهمي وحزني امارس فيها فنون اليوجا ،متأملة مافات من حياتي ،أرتب وجعي ،واكسوه تصميم واصرار على مواصلة المستقبل .

 

لحج ليست مجرد مدينة عادية كباقي المدن بالنسبة لي هي محرابي وملجأ همي ، وسكن قلبي بعد تشرد وسفر ، ورغم اني نسيت كثيرا من الوجوه فيها على مر السنين الا ان الكثير من تلك الوجوه كانت تذكرني ،وتسأل عني كلما حانت الفرصة.لي فيها قبور احبة وعدتهم بأن لا اتوقف عن زيارتهم ابدا وزراعة قبورهم وسقايتها ، ورواية الاخبار عليهم في عالمهم الاخر ،لكنهم حالوا بيني وبين ذلك الوعد لم اعد اعرف ايها قبور احبتي ، يمنعوني من دخولها بزعمهم اني إمرأة وان دخول النساء مكروه ، وان خير القبور مالايعرف لها صاحب .

 

حتى ذلك الورد الاحمر الذي كان يهدينيه جدي من بساتين الحسيني لم يعد هناك ترك لحج ورحل ،شجرة جدي التي كنت اجلس الى جانبه اسقيها معه رحلت ، وسنتي التي زرعها وهو يمازحني بين شقوق الباب رحلت ،ورغم كل هذا الرحيل وقسوة الفقد ،وعبثهم في ذكرياتنا عنوة ، احن اليها واعود فأجدها في انتظاري مبتسمة لاتلومني مهما تأخرت في العودة بل تفتح ذراعتها وتستقبلني وكأنها امي ، لا تزاحم الاسئلة علي هي فقط تمنحني الإجابات على كل أسألتي ،تحتضن ضياعي ، وتملىء جعبتي باليقين .

 

حبات خميرها وفولها ( الجحلة) .. (كدرها ) .. سليطها الحالي والمعصرة التي ترفدني رائحة (الجلجل ) من خلف ابوابها بوجوه محبة...( قرمشها ) ... ( بنت الشيخ ) فيها وجارتنا جداه فاطمة التي تصنعها ، وجلوسي الى جوارها ..فلها والمشموم وحنونها.. مصنع الباردين واللانجوس ، ( هنوة ) تلك المرأة التي لم اذق كبطاطها ابو الحمر مع العشر . . ( امسيتو) المرأة المسنة التي تمطرنا بالقبل ورذاذ لعابها يتطاير علينا من خلف ماتبقى من اسنانها ،وكيف كنا نهرب كلما رأيناها .. جدتي التي تسترق النظر من خلف (مشكتها) كل صباح ،

 

هي لحج وما خفي لها في صدري كان أعظم ....

 

عظيمة هي تلك الارض التي لاتشكو همها ابدا لكنها العالم الاخر الجميل الذي يمنحك اللذة والمتعة رغم قسوة الحياة .. عابرة المحن ..صانعة الحياة رغم مايسكنها من الموت ..