آخر تحديث :السبت-20 أبريل 2024-02:59ص

ملفات وتحقيقات


(27 أبريل) إعلان ذبح (الوحدة) بالخنجر اليماني.. وكابوس يؤرق الجنوبيين

الجمعة - 26 أبريل 2013 - 09:04 م بتوقيت عدن

(27 أبريل) إعلان ذبح (الوحدة) بالخنجر اليماني.. وكابوس يؤرق الجنوبيين
جنود من القوات اليمنية يتجولون على الجسر البحري بعدن في يوليو 1994م

عدن(عدن الغد)خاص:

*تقرير: صالح أبوعوذل

 

في 22 مايو من العام 1990 احتفلت مدينة عدن عاصمة الجنوب السابقة بإعلان توقيع عقد اتفاق توحيد البلدين الجارين والشقيقين (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والجمهورية العربية اليمنية), في ذلك الصباح الذي أشرق على مدينة عدن كان الجميع سعداء. شوارع المدينة تتزين بابتسامات كل المارين فيها, والشمس ترسل أشعتها على المدينة في صيف حار نسبياً كان يوم عطلة رسمية فطلاب المدارس كانوا يستعدون للخروج للملاهي والمتنزهات للاحتفال بتوحيد البلدين.

 

الرئيسان علي سالم البيض رئيس اليمن الجنوبي وعلي عبدالله صالح رئيس اليمن الشمالي يجتمعان في قصر التواهي بمدينة عدن، وسط صيحات الفرح تقدم الرئيسان صالح والبيض إلى أمام سارية لرفع علم موحد عرف في حينها بعلم دولة الوحدة (الجمهورية اليمنية) كان تلفزيون عدن في ذلك التاريخ يبث وقائع احتفال إعلان توقيع الوحدة.

 

الجميع مبتهج.. تعانق الرئيسان الأخوان البيض وصالح.. فمن اليوم سوف يقعدان في مكتب واحد ويناقشان شؤون بلد واحد. الأول (البيض) تنازل عن منصبه كرئيس مقابل أن يبقى نائباً لصالح الرئيس المعين باتفاق ودي.

الجنوبيون كانوا أكثر سعادة بالوحدة.. رجل في الستينات من عمره يجلس على كرسي في مقهاية شعبية وسط حي بمدينة الشيخ عثمان منهمك في تناول الشاي (الملبن) والمحبب لدى أبناء عدن، لا أحد يعرف عنه شيئا ممن يرتادون المقهاية سوى مشاهدتهم له كل يوم.

 

كان يجلس بالقرب منه شاب يقرأ صحيفة (جنوبية) وعلى صدر صفحتها الأولى شد انتباهه عنوان بارز بالخط العريض (استعدادات لإحياء مليونية جنوبية بعدن) في تفاصيل الخبر أن هناك استعدادات مكثفة يقوم بها الجنوبيون لإحياء ذكرى إعلان الحرب على الجنوب.

 

عادت بالحاج الذاكرة عشرات السنين إلى الوراء، صمت في ظل أصوات تتزاحم في الشارع المجاور، نهض من مكانه وقال "آه منذ أن عرفت عمري وأنا في نضال دون أن نحقق شيئا للجنوب.. مسكين هذا الشعب، مساكين أبناؤه الشباب!!".

آمال الشاب أوراق الصحيفة عن وجهه ونظر إلى الحاج الواقف على قدميه وقال: ما لك يا حاج؟ تفاءل خيرا!.

 

هم الرجل بالتحرك وترك المكان، لكن شبابا كانوا قد سمعوا صوته وتشوقوا لسماع تاريخ طالما زيف عليهم في المدارس!.

 

والح الشباب على الحاج  بالجلوس وتجمع حواليه العشرات من الشبان وبدأ الرجل بسرد الحكاية من عام 1967م منذ حين فجر الاستقلال. مراحل طويلة، وكان بين كل مرحلة وأخرى يمتدح الجنوب, وتطرق إلى كيفية إدخال الاشتراكية إلى الجنوب, وغير ذلك مما يتعلق بتاريخ الجنوب السياسي.

 

كان الشباب في تشوق للاستماع أكثر.. لكن الحاج أوضح لهم أن تلك الملفات يجب أن تغلق لأن الشعب قد دفع فاتورة تلك المراحل كثيرا.

 

كان شعار الجنوب (لنناضل من أجل الدفاع عن الثورة اليمنية, وتنفيذ الخطة الخمسية, وتحقيق الوحدة اليمنية) بينما شعار الشماليين لا يتوافق مع الشعار الذي يرفعه الجنوبيون، وكان (البناء والإعمار ومحو العار).

 

وفيما يتعلق بمضمون الشعار خصوصا الفقرة الاخيرة (محو العار)، فإنه قبل الوحدة وفي السبعينات تقاتل الشمال والجنوب وخلال تلك المعارك حقق الجنوب انتصارات على قوات الشمال، وتم دحر القوات الشمالية إلى مدن السوادية القريبة من ذمار، تلك الهزائم اعتبرها  النظام الشمالي (عار) يجب محوه.

 

فرحة الجنوبيين بالوحدة

أحمد شاب في الثلاثينيات عمره، يسكن قرية في ريف مديرية مكيراس بأبين، في ليلة الـ22 من مايو يتابع عبر إذاعة عدن وبصوت مذيعة عدنية بارعة تتحدث عن (الوحدة)، وبينما كان الشاب يستمع إلى المذياع أتاه من الغرفة المجاورة خبر سار، لقد أنجبت زوجته (بنتاً) جميلة.. والدته العجوز أتت إليه بالبشرى، أخفض أحمد صوت المذياع.. هاه يا أماه، قالت لقد رزقك الله ببنت!! فرح فرحاً شديداً,, سألته أمه ماذا نسميها.. قال لها: نسميها (وحدة)!.

 

مر عامان على وحدة (البنت) والوحدة اليمنية، ومع بزوغ العام الثالث بدأ الجنوبيون يتذمرون من الوحدة فهناك اغتيالات لكوادر ومسئولين في صنعاء وكان التلفزيون اليمني يذيع بأن عناصر تنظيم القاعدة اغتالت المسئول البارز، وسار الوضع نحو الأسوأ، اكتمل العام الثالث لوحدة (البنت) والوحدة اليمنية بدأت أوضاعها تنذر بالانفجار.

 

احتج الرئيس البيض على تلك العمليات التي تم بها تصفية كوادر دولة الجنوب السابقة، اعتكف في منزله, ومن جانبه تحرك الرئيس صالح يمينا ويسارا للبحث عن التأييد لشن حرب على الجنوب، ذهب إلى جامع كبير في مدينة تعز المحاذية للجنوب، وفيها اجتمع برجال دين من أنصاره أفتوا حينها بأن البيض خارج عن طاعة ولي الأمر (صالح).

 

توتر الوضع أكثر إلى أن أتى يوم الـ27 من أبريل 1994م, وفي وسط ميدان فسيح لا يزال (صالح) يستخدمه لمهاجمة خصومه وعلى منبر ميدان السبعين هتف بعبارات تؤكد مضيه لقتال الانفصاليين والخارجين عن الطاعة، واسترسل في خطابة إلى أن أخرج مسدسه وأطلق طلقة رصاص في الهواء كرساله للجنوبيين ببدء الحرب.

 

وزير الأوقاف والإرشاد حينها كان منهمكا في إعداد فتوى دينية تجيز قتال الجنوبيين.. فيما انفجر القتال بين ألوية جنوبية وأخرى شمالية في مدن مأرب وعمران وذمار.. واشتد أوزار الحرب.  

وفي اليوم التالي تتصدر تلك الفتوى صفحات الصحف اليمنية.

 

وجهت الدعوات إلى مختلف القبائل اليمنية للمشاركة في مد المقاتلين بالعتاد والزاد، وأنشئت الجمعيات الخيرية لجمع التبرعات.. رجل الدين اليمني الزنداني يخاطب القبائل والعشائر اليمنية "من جهز غازيا فقد غزا".. كانت النسوة في الشمال يعددن الزاد والغذاء وتتبرعن بحليهن وكل ما استطعن جمعه.. تواردت القبائل اليمنية من مختلف المدن اليمنية لـ(الجهاد).

في الخامس من مايو استيقظ سكان مدينة مكيراس وقراها على أصوات المدافع التي أمطرت بها قوات (الشرعية) مناطقهم.

 

كانت وحدة (البنت) نائمة إلى جوار أمها، قذائف المدافع باتت تقترب أكثر من منازلهم، خرج والد وأم  (وحدة) من الغرفة التي كانتا ترقدان فيها وتركا طفلتهما في الغرفة، وبينما كانا أمام المنزل ينظران إلى القذائف المدفعية أتت على حين غفلة قذيفة هاون لتخترق سقف الغرفة التي كانت وحدة ترقد فيها لتصيبها بمقتل. عاد والداها إلى الغرفة التي تهدم سقفها ليجدا وحدة جثة هامدة ومن هول الفجيعة لم يبالوا بقذائف المدافع التي انهالت على القرية.

هدأت أصوات المدافع مع الظهيرة، ذهب أهل القرية الى بيت (أبو وحدة) لتعزيته ومواراة (وحدة) الثرى.

 

كان أحمد الذي فقد ابنته (وحدة) يستمع إلى الإذاعة وسط حزن عظيم على فراق ابنته فلذة كبده ومع الترقب لسماع بيان هام من إذاعة عدن أتى أحد أفراد أسرته ليخبره بأن زوجته الحامل مريضة ويجب أن تنقل إلى مستشفى مكيراس وبأقصى سرعة، كان المستشفى محتلا من جنود قوات الشرعية، أسرع اخوه بإسعافها إلى المستشفى وفيه وضعت مولودها.. غادرت زوجة أحمد مع شقيقه المستشفى عائدين إلى القرية!.

 

ظل احمد يتابع اذاعة عدن.. تشويش في الارسال، اعتلى احمد شرفة منزله المهدم وظل يتابع الاذاعة  لمعرفة البيان الهام فيما كانت زوجته في الطريق اليه تحمل بنتاً اخرى.

 

وبينما كان أحمد يحمد الله الذي اخلفه خيرا عن (وحدة) سمع عبر المذياع صوت الرئيس الجنوبي علي سالم البيض في الـ21 مايو يعلن فك ارتباط  (الجنوب)، كاد احمد يطير من شدة الفرح (انفصال.. انفصال) ليكون ذلك اسم المولودة الجديدة.

خرج الجنوبيون الى الشوارع في عدن ومدن اخرى للاحتفال.. هبت النساء للقتال الى جانب الجيش الجنوبي، تم تعزيز القوات المرابطة في دوفس بالمؤن والسلاح.

 

كان (صالح) يهاتف قائد قواته حينها باتجاه عدن: "حركوا السلاحف".. المراقبة الجنوبية تلقت تلك الكلمة لتصل إلى المذيعة العدنية البارعة لتستخدم تلك العبارة في وصف القوات التي تغزو عدن "قوات علي سلاحف".

رغم كل المقاومة هزم الجيش الجنوبي، وشرد أفراده ورحل جميع قياداته إلى الخارج.

 

عاد أحمد لتربية (انفصال) إلى أن بلغت سن الـ15 ليتقدم لها ابن عمها ويتزوجها لتنجب له ولداً بات اليوم يدرك لماذا سميت امه (انفصال) ليتابع بشغف ما الذي تسفر عنه ثورة الجنوب السلمية.

وإن تأخر حسمها، فلديه هناك ما يذكره بالجنوب، وهي (أمه).