آخر تحديث :الجمعة-29 مارس 2024-01:18م

ملفات وتحقيقات


أمن الطاقة العالمي.. إطلالة على حروب القرن الـ21 (الحلقة الثانية)

الثلاثاء - 28 يوليه 2020 - 08:38 م بتوقيت عدن

أمن الطاقة العالمي.. إطلالة على حروب القرن الـ21 (الحلقة الثانية)

عدن (عدن الغد) خاص:

كتب: د. أحمد محمد سميح

 

مرتكزات استراتيجية أمن الطاقة العالمي:

 مصطلح أمن الطاقة العالمي ليس أمرا جديدا في السياسة الدولية، فالصراعات حول موارد الطاقة العالمية كانت منذ فترة طويلة ومازالت تعتبر عنصرًا مهمًا في الأزقة الدولية للدول الكبرى، لكن هذا المصطلح أصبح اليوم يمثل واحدا من أهم عناصر "أمن العالم"، بسبب محدودية موارد الطاقة غير المتجددة واختلال مناطق توزيعها عالميا. لقد عرَف السير ونستون تشرشل - رئيس الوزراء البريطاني - حينها - مفهوم "أمن الطاقة" بانه "الحاجة إلى التنويع والوصول إلى مختلف مصادر الطاقة والموردين"، وهو التعريف الذي أورده " الكتاب الأخضر للمفوضية الأوروبية لعام 2006 حول امن الطاقة. وبناء على هذا التعريف اصبحت إستراتيجية امن الطاقة العالمي تقوم في جوهرها على التوجهات التالية :

  أولا: الاخذ بعين الاعتبار عدم توافر حصانة مؤكدة لواردات الطاقة من مناطق الإنتاج إلى مناطق الاستهلاك الرئيسية، حيث أن معظم صادرات النفط والغاز تأتي من مناطق تمتاز بضعف الاستقرار السياسي و" ميوعة سياسية " وفوضى مجتمعية، سواء أكانت هذه الصادرات تأتي من فنزويلا او من نيجيريا او من اندونيسيا او من العراق او ليبيا او ايران، او حتى دول الخليج وبالتالي فإن تأمين "امدادات الطاقة" في الظروف المعاصرة أصبح يقوم على:

- إمكانية استخدام القوة الًعسكرية لتامين الإمدادات خاصة في ظروف عدم الاستقرار الشامل وقد حدث مثل هذا الأمر فعلا مع العراق في العام 2004م واحتمال حدوثه مع إيران حاليا.

- تأمين الدعم السياسي للأنظمة الحاكمة وتوسيع تجارة السلاح معها وجعلها دوما تحت حماية "المظلة" الأمريكية كما هو الحال مع كثير من بلدان الشرق الأوسط الغنية بمصادر الطاقة.

ثانيا: جوهر استراتيجية "امن الطاقة" يقوم على أساس تامين إمدادات كافية من الطاقة تتوافق مع تزايد الطلب وبأسعار مقبولة وفقا لقانون العرض والطلب في السوق، مع الأخذ بعين الاعتبار "محدودية" مصادر العرض من الطاقة وتزايد الطلب عليها كأساس "لآلية الأسعار".

ثالثا: أصبح "أمن الطاقة "كمفهوم استراتيجي يركز على التهديدات المتصاعدة "لأمن البيئة" ذات الصلة بقطاع الطاقة نفسه وعلى درء مخاطر التخريب المتعمد والإضرار بخطوط نقل الغاز والنفط وكذلك السدود المائية "المولدة" للطاقة الكهربائية ومحطات توليد الكهرباء والمحطات النووية وغيرها من عناصر منظومة البنية التحتية الخاصة بالطاقة. فالبنية التحتية لقطاع الطاقة تعتبر الحلقة الاضعف في أي مجتمع نظرا لحساسيتها وقوة تأثيرها على حياة الناس في داخل الدولة وخارجها. فمحطات الطاقة النووية والكهربائية ونظم الإمداد الطاقوي تعد الأكثر عرضة للعمليات الإرهابية والنزاعات العسكرية والكوارث سواء من البحر أو الجو أو البر. (يصل عدد الهجمات الإرهابية على البنية التحتية للطاقة، لا سيما في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، الى حوالي 350 حادثًا سنويًا).

 بهذا الصدد تشير وثيقة الأمن القومي الامريكي لعام 2010 الصادرة عن الرئيس الأمريكي اوباما إلى أن "الوصول الى مصادر الطاقة أمر بالغ الحيوية للمصالح الأمريكية ولتحقيق هذا الهدف ينبغي تنويع مصادر الحصول عليها وعلى وجهات صادراتها ". وبغض النظر عن الأهداف المعلنة للحكومات الأمريكية المتعاقبة بتخفيض الاعتماد على مصادر الوقود الاحفوري إلا ان مثل هذا الهدف يظل صعب المنال على مدى فترة الـ 50 سنة القادمة. فالولايات المتحدة التي لا تمثل سوى 5% من سكان العالم تستهلك 50% من الموارد العالمية للطاقة وحوالي 25% من الإنتاج العالمي للمشتقات النفطية ويشارك اقتصادها بأكثر من 20% من حجم الناتج الإجمالي العالمي وتعتبر من أكبر مستهلكي الطاقة في العالم وتضطر إلى استيراد كمية كبيرة من الهيدروكربونات من الخارج وبشكل أساسي من منطقة الخليج العربي (تستورد بما يقارب 20 مليار دولار من النفط شهريا،  وقيمة وارداتها الشهرية  استمرت في الارتفاع حتى يوليو 2008، حيث وصلت إلى  40 مليار دولار بسبب الارتفاع الحاد في أسعار النفط في النصف الأول من عام 2008).

البحث عن مناطق جديدة غنية بالهيدروكربونات أصبح هدف محوري في استراتيجية امن الطاقة الامريكية ولتحقيق هذا الهدف تعمل الولايات المتحدة على تعزيز أذرعها الاقتصادية عبر دعم وتعزيز نفوذ شركاتها النفطية للاستثمار في مختلف بقاع العالم لضمان سد احتياجاتها من النفط في الحاضر والمستقبل مستخدمة في ذلك كل الوسائل الممكنة لتامين التدفق المستمر للنفط وبأسعار "ملائمة جدا". (تركز الشركات النفطية الامريكية حاليا على مناطق غرب افريقيا) كذلك تشترط استراتيجية امن الطاقة العالمي من منظور الامن القومي الأمريكي ضمان أسواق طاقة مستقرة عالميا على المدى الطويل مع توفر قدرات لوجستية عالية تمتلك نظام لا مركزي كفؤ لنقل الطاقة عبر المضايق والممرات المائية والبحار المفتوحة او عبر انابيب النقل وبتكاليف منخفضة. وثيقة "سياسة الدفاع كل أربع سنوات"، التي نشرت في فبراير 2010 من قبل وزارة الدفاع الأمريكية حددت أربع محاور رئيسية لاستراتيجية الأمن القومي الأمريكي في مجال امن الطاقة هي:

- ضمان الأمن القومي للولايات المتحدة.

- تدعيم القدرات الدفاعية.

- ضمان امن البنية الصناعية للبلاد.

- ضمان امن الأصدقاء والحلفاء والدفاع عن "امن الطاقة" الخاص بهم.

لهذا الغرض شرعت القوات المسلحة الأميركية في التحول تدريجيا إلى ضامن لأمن موارد الطاقة، والأهمية الحاسمة في هذا التحول ليس السيطرة الجغرافية المباشرة على المناطق بل تعزيز السيطرة الاقتصادية على مقدراتها وخصوصا موارد النفط والبني التحتية لصناعة النفط والغاز. في تقريرها المقدم أمام جلسة استماع لجنة العلاقات الخارجية في 15 يوليو 2009م أكدت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون – حينها- بان أحد الأهداف الأربعة التي تشارك فيها القوات المسلحة الأميركية في الشرق الأوسط، هي" ضمان أمن الطاقة".

القناعات المتداولة في الدوائر السياسية والمعتمدة في الوثائق الرسمية الامريكية حتى وان بدت قناعات معبر عنها بعبارات مبسطة وأحيانا "بنوتة ساذجة" إلا أنها تشكل محور لعمل الأجهزة المخابراتية في إطار ما بات يعرف اليوم" بمصطلح حروب الطاقة او المنافسة على مصادر الطاقة ". بهذا الصدد اشار مكتب جهاز المخابرات القومي الأمريكي في تقريره "إستراتيجية الاستخبارات الوطنية " لعام 2009م.

إن "اشتداد " الصراع والتنافس على الطاقة " يمكن له ان يضر "بالأمن القومي الأمريكي" نظرا لان كثير من الدول تسعى للوصول الى مصادر الطاقة والى خطوط إمداداتها، ، وبالتالي على أجهزة المخابرات الأمريكية ان لا تسمح بالإضرار بالمصالح الوطنية الامريكية في هذا المجال وأن تعمل على وجه السرعة مع الخبراء في مجال امن الطاقة للحصول المستمر على المعلومات الحساسة في هذا الجانب".

كما انه من المهم الاشارة هنا الى التقرير المخابراتي المشترك الصادر عن مجلس الأمن القومي الامريكي ووكالة المخابرات المركزية الامريكية بعنوان (الاتجاهات العالمية لعالم متغير-2025)، الذي عبر عن وجهة نظر القيادة السياسية و العسكرية الأمريكية تجاه  مسألة استخدام  القوة العسكرية المباشرة من اجل تامين "امن الطاقة العالمي"، حيث يشير التقرير الى السيناريوهات المحتملة لتطور الصراع العالمي في المدى المنظور و الطويل بشان "امن الطاقة"." و اكد على احتمالية اشتداد الصراع العالمي للوصول لمناطق انتاج الطاقة .و اشار التقرير انه بحلول2025 سيتحول مركز ثقل الاقتصاد العالمي تدريجيا بتجاه الشرق (الصين والهند) وسيكون هناك صعود تدريجي لقوة روسيا و ايران و هناك احتمال لان يصبح العالم متعدد الاقطاب.

وبحسب التقرير فإن السنوات العشرين المقبلة ستكون محفوفة بالمخاطر مع عملية انتقال المجتمع البشري إلى النظام الجديد متعدد الأقطاب ومن المحتمل أن تدور الخصومات الإستراتيجية حول التجارة والاستثمار والتقنيات الجديدة وعمليات الاستحواذ ولا يستبعد تكرار سيناريو القرن التاسع عشر بسباق التسلح والاستيلاء على الأراضي والمنافسات العسكرية. التقرير أشار الى ان مجموع الناتج الإجمالي لدول (البركست - الصين وروسيا - البرازيل – الهند) خلال الفترة ما بين 2040-2050م سيصل تقريبا الى مصاف الناتج الإجمالي للدول السبع الصناعية الكبرى. وعلى مدى العشرين السنة القادمة ستحدث الصين تغيرات غير مسبوقة على جميع دول العالم أكثر من أي قوة اقتصادية أخرى وستتربع على عرش الاقتصاد العالمي كثاني اقتصاد وهناك احتمال كبير لتفوقها العسكري المطلق على كثير من الدول المتقدمة وستتحول الى أكبر مستورد لمختلف أنواع الطاقة وستكون الملوث الأول للبيئة على نطاق العالم.

كما يشير التقرير الى احتمال صعود التأثير السياسي والاقتصادي لدول محورية كـ (تركيا وإيران وإندونيسيا بحلول عام 2025). لقد أصبح محور سياسات الطاقة يقوم اليوم في السياق الجيوسياسي ليس فقط على الهيمنة شبه المباشرة على مناطق الإنتاج، بل يتعدى الامر ذلك الى فرض الرقابة الدائمة على خطوط النقل والامداد والممرات المائية التي تعبر من خلالها امدادات الطاقة.. لذا فانه في إطار هذا المسار تركز الولايات المتحدة على تطور القدرات العسكرية لكل من الصين والهند وتطور تجارة السلاح وبناء سفن المحيطات فيهما. فالصين تهتم ببناء أسطولها الحربي كضرورة من ضرورات تحقيق أحلامها الوطنية المتمثلة في التوسع الاقتصادي وبناء الاقتصاد الموجه نحو التصدير وحماية الطرق التي تستورد البلاد عبرها حاجاتها من موارد الخام. في هذا الجانب اخذ الصراع مع الصين يتمحور بدرجة رئيسية حول "جيوبوليتكا الممرات وخطوط نقل الطاقة" ونقاط "العبور".

 وتركز الولايات المتحدة اهتماماتها على الدول التي تمر عبرها "الأنابيب والناقلات العملاقة" لإحكام سيطرتها ومراقبة الامدادات الى مناطق الاستهلاك الأخرى. (فمثلا يمر أكثر من 80٪ من إمدادات النفط إلى اليابان وكوريا، بالإضافة إلى نصف الإمدادات إلى الصين عبر مضيق ملقه الواقع بين إندونيسيا وماليزيا) وتقوم البحرية الأمريكية بحراسة هذا الممر المائي وتنظر الصين ودول أخرى في الإقليم الشرق أسوي تعتمد على الاستيراد من الشرق الأوسط، للدور البحري الأمريكي المهيمن بعين الريبة وبتوجس وقلق كبير.

حماية أمن الطاقة من منظور الولايات المتحدة يعتمد بالدرجة الرئيسية على تطوير استراتيجيات متنوعة مثل تبني استراتيجيات تكتيكية تحت مسمى " الحروب غير المكتملة "، التي تعتقد انها قد تساعد في كبح جماح الصين ونهمها المتزايد للطاقة وتعيق مشروعاتها الاستثمارية في مناطق تموضع الهيدروكربونات خصوصا في مناطق الإنتاج الرئيسة.

 كما تتضمن هذه الاستراتيجية ارسال قوات إلى وسط وشرق أوروبا لمجابهة النفوذ الروسي المهيمن على السوق الأوربي للطاقة وإضعاف تطلعات روسيا في البلقان ناهيك عن تطلعاتها تجاه جيرانها في الفضاء السوفيتي السابق، وكذا نقل قوات ضاربة إلى الشرق الأوسط. لموجهة التهديدات المتزايدة لإيران. كما تقوم الولايات المتحدة بتطوير استراتيجيات طويلة الامد مثل استراتيجية "الدفاع المتقدم" لحماية امن حلفاءها وامن الطاقة الخاص بهم بنشر قوات ردع متقدمة تمتد من محيط الجزر اليابانية حتى الفلبين لاحتواء تحركات التنين الصيني في المحيط الهادئ وتقوم بتوسيع تعاونها مع فيتنام ونصب أنظمة الدفاع الصاروخي في كوريا الجنوبية لكبح كوريا الشمالية وانتهاج سياسات الاحتواء الاقتصادي عبر العقوبات والمقاطعة والضغوط الاقتصادية ونهج الفوضى الخلاقة في كثير من المناطق التي تشكل اهمية حيوية لمصالحها.