آخر تحديث :الجمعة-26 أبريل 2024-02:57ص

أدب وثقافة


ابو الهند -قصة قصيرة

الإثنين - 25 مايو 2020 - 02:43 ص بتوقيت عدن

ابو الهند -قصة قصيرة

عدن ((عدن الغد)) خاص:

ابو الهند....*

قصة قصيرة

مختار مقطري

كانت الساعة السابعة صباحا، وقد انتهيت من ارتداء ثيابي وتمشيط شعري، فأنا احب ان اكون على مكتبي في الوقت المناسب، عادة تعلمتها من ابي ، يرحمه الله، وكثيرا ما نصحني ان اتبعها.
في بيتي وحيد، منذ اسبوعين، زوجتي والثلاث بنات في بيت امها، فهي تفضل ان تلد في بيتها بكريتر، بجانب مسجد العيدروس، وكآنها تصدق ان بركات العيدروس اقوى من بركات الهاشمي، لكنها تؤكد ان امها تفهم كثيرا في التوليد، وستخدمها بعد الولادة، وقبل اربعة ايام انجبت زوجتي البنت الرابعة.
كنت قد وضعت القفل واغلقته جيدا، لماذا اللسان دائما على شكل قوس؟ لماذا لا يكون على شكل مربع او مستطيل؟
طار السؤال من عقلي، عندما وضعت خطوتي الاولى على ارضية الحارة المغطاة بالتراب، لا احد.. لا يوجد احد، الحارة فارغة.. خالية من اهلها الذين ابادلهم تحية الصباح،خالية من المارة الغرباء.. لا رجل.. لا امرأة.. لا طفل، والمحلات التجارية مغلقة.. فرن التوبة..كافتيريا الانصار.. بقالة النزاهة..مستودع القناعة لبيع المعاوز.. مستودع النور للكهربائيات.. حلاق المقص الذهبي.. ولاول مرة انتبه الى ازدحام حارتنا القصيرة الضيقة بكل هذه المحلات التجارية، لكني اجلت التفكير في هذه المسألة لوقت أخر، فقد انتبهت الى اجنماع ودي للكلاب والقطط، وهم يبحثون عن الطعام في (الكدافة)* بركن الحارة.
كنت قد تجولت في الحارة قليلا.. ومن مكاني في وسطها بدت لي الحارة المواجهة لحارتنا، خالية هي ايضا، وفعلا كانت كذلك.. لا احد.. لاصوت عراك من داخل احد البيوت، ولا صوت اغنية صباحية ، هل الناس احياء.. نيام.. موتى داخل بيوتهم.. اين ذهبوا.. بدأت اشعر بقلقي يكبر.. بالخوف.. اخرجت الهاتف الجوال من جيبي، اتصلت ببيت ام زوجتي..لا رد ببيت امي..لا رد.. ببيت اخي.. لا ر ببيت اختي.. ابن عمي.. ابن خالتي..صديقي.. لا رد.. اعدت الهاتف الى جيبي.. تذكرت ان لسان القفل مقوس. وجميع الاقفال في هذه المدينة صناعة صيني.. الماسونية الصينية.. والدور الارضي لمسجد النور* على شكل ممرين متقاطعين على هيئة صليب.. لكن متى رحل الناس.. او اجبروهم على الرحيل، ليلة واحدة لا تكفي لافراغ مدينة من سكانها..لكنهم، كما قرأت وسمعت وشاهدت في التلفزيون، قادرون على فعل كل شيء واي شيء.
كنت قد وصلت للشارع الرئيسي..لم ار احدا.. لا مارة. لا متسوقين..لا باعة يفترشون الارض..لا باعة متجولين..مسجد النور كانه قبر ضخم، السيارات كلها واقفة.. نوافذها مفتوحة كأن كارثة كونية كونية حلت مساء امس بالمدينة، بعد ان اويت لفراشي الساعة الحادية عشرة.
قررت الذهاب لكريتر، لاطمئن على زوجتي وبناتي..هل اجد تاكسي؟ من يدري؟ قد اجد تاكسي في فرزة الهاشمي.
مضيت بخطى سريعة، انعطفت يسارا.. لا احد.. لا احد..المدينة ماتت.. فمن اعطى جثتها للكلاب والقطط.. انعطفت يسارا ايضا..لا ارى احدا امامي..قبة الهاشمي البيضاء غير موجودة..والغرفة التي كانت تحتها تضم قبره المبارك بدفئها الانساني الجميل.. هدموا كل شيء.. في ذلك اليوم الذي خافوا فيه علينا من الكفر والشرك.. القبة والغرفة والقبر المبارك.. واقيمت في المكان محلات تجارية تبيع العطور والبخور واللوز والزبيب ، تذكرت اللسان المقوس للقفل الصيني. والشارعين المتقاطعين على شكل صليب تحت مسجد النور.. خوفي صار اثقل، ودق قلبي.. لكن تملكتني دهشة عظيمة.، رأيت بائع هند يجلس القرفصاء على الارض، وامامه مجمرته المصنوعة من الصفيح.. وفي يده اليمنى مروحة خزف يمروح بها على الجمرات التي في المجمرة، والى يمينه شوال كبير يبدو مليئا بأكواز الذرة.
اقتربت منه، كنت واثقا من انه شعر باقترابي، ولم يكترث، وقفت امامه، الجمر في المجمرة مطفأ، ولايستجيب للهواء الذي تحركه المروحة الخزف. ساقاه نحيلتان وجسده هزيل، لا يغطيه غير فوطة حمراء رثة على عورته.. وفخذاه مكشوفان، وظهره مقوس ورأسه كبير يغطيه شعر ابيض كثيف، وله لحية كثيفة بيضاء تتدلى على صدره العاري..يقترب من السبعين كأنه حكيم بوذي، او فيلسوف، يوناني.. هدأت نفسي، فوجهت له سؤالي دون نمهيد:
- ياعم.. اين ذهب الناس؟
لم يرفع رأسه، واجابني ببرود:
- اي ناس؟
اسعدني انه يتكلم، فرددت عليه سريعا:
- اهالي المدينة.
فقال بثقة:
- هذه المدينة فارغة منذ عشرات السنين.
لا ادري إن كنت اجبته بغضب ام بدهشة:
- مساء امس كانت مكتظة بالناس.
لم يرد، ولم يتوقف عن هز المروحة الخزف، فعدت اقول وقد هدأت نفسي اكثر:
- ياعم .. انا مولود في هذه المدينة منذ اربعين عاما.. درست في جامعتها وحصلت على شهادة في التاريخ، وتزوجت وانجبت اربع بنات ولي فيها بيت وام واخوة واصحاب..
قاطعني هذه المرة، وانا ارى اطراف ابتسامة على جزء من شفتيه:
- كل هذا في مخيلتك.
بدأت اشعر بأني على وشك ان اغضب، فقلت وانا احاول السيطرة على غضبي:
- قل لي يا عم.. لمن تبيع هذا الهند؟
- للقادمين الجدد
. اي قادمين؟
- الذين يستحقون العيش في هذه المدينة.
- واهاليها القدامى؟
- قلت لك اختفوا منذ عشرات السنين.
- لماذا؟
- هانوا.. انكسروا.. اكل بعضهم بعضا.. لم يدافعوا عن مدينتهم.
اسئلتي سريعة واجاباته اسرع.. هذا العجوز مخرف او مجنون..لكنه يعرف اشياء كثيرة، واكثر الماما مني بالتاريخ، فسألته لاطمئن:
- من انت؟
سعل.. ثم قال:
- عجوز غريب عن هذه المدينة.
- لكنك تعرف الكثير عنها.. قل لي.. متى يأتي القادمون الجدد؟
نوقف عن هز مروحته ثم وضعها فوق فخذه ورفع رأسه نحوي وهو يقول مبتسما:
- عندما تحمر هذه الجمرات.. كفاك اسئلة.
وجهه وديع وابتسامته طيبة، لكني عجبت لاسنانه البيضاء المتراصة بقوة على صفي اللثة داخل فمه، فسألته بمودة:
- بماذا تنصحتي
لم يفكر لحظة واحدة ،وانما قال بصوت ناصح:
- عد الى بيتك واقفل على نفسك الباب، فقد يرحمك القادمون الجدد ويعتبرونك من ابناء هذه المدينة.

بدات اشعر بحزن ثقيل سقط على قلبي، وبهم اثقل ، مر امامنا كلب قذر، وقطة تبحث عن فأر،فتذكرت اللسان المقوس للقفل الصيني والممرين المتقاطين تحت مسجد النور.. تركته بدون تحية مطأطئا رأسي.. كنت اشعر بالاختناق والخوف، فسالت دموعي، وعندما رفعت رأسي لامسح خدي.لاحت امامي الغرفة الدافئة بروحانية انسانية جميلة، وبابها الاخضر مفتوح، وفوقها شمخت القبة البيضاء بلونها النوراني المشع بهاء وجلالا.. شعرت بروح الهاشمي تملؤ المكان وتملؤ قلبي، امسكت دموعي.. واحسست بطمأنينة، ثم بكيت بلا دموع..سعادتي اصبحت غامرة.. صرت واثقا ان اهالي المدينة سوف يعودون بعد قليل.
كأني استيقظ من الموت..على كف رقيقة تلطم خدي لطمات خفيفة، فتحت عينيّ بمشقة،لارى وجه زوجتي الجميل وهي تقول بحماس:
- اصح يا ابو هاشم..لا تصرخ.. اهدأ وتعود من الشيطان الرجيم.. كابوس خبيث.. اهدأ وتعود من الشيطان.
-----------------------
* بائع الهند/بائع الذرة المشوية.
* العيدروس والهاشمي/ من اولياء الله الصالحين في عدن.
* مسجد النور/ من اكبر مساجد عدن في منطقة الشيخ عثمان.
* الشيخ عثمان وكريتر من مناطق مدينة عدن
* الكدافة مكان تجميع القمامة.