آخر تحديث :الخميس-28 مارس 2024-02:47م

ملفات وتحقيقات


حكاية ثلاثة آلف عام .. (الجنبية) تروي تاريح اليمن السعيد

الثلاثاء - 01 أكتوبر 2019 - 06:06 م بتوقيت عدن

حكاية ثلاثة آلف عام .. (الجنبية) تروي تاريح اليمن السعيد
استطاعت الجنبية اليمنية الحفاظ على رمزيتها الثقافية، وصمدت في وجه المتغيرات الاجتماعية والسياسية

(عدن الغد) صحيفة الاستقلاب - آدم يحيى:

على مدى قرون، مثّل الخنجر الذي يسمى محليا (الجَنْبيَة)، رمزا للهوية التي تميز اليمنيين عن غيرهم. لا تعرف البداية الدقيقة لتاريخ الجنبية إلا أن تماثيل أظهرت الملك اليمني معد يكرب الذي حكم في القرن السادس قبل الميلاد، وهو يرتدي الجنبية على هيئتها الأولى (الخنجر العربي)، وكشفت نقوش أخرى يعود تاريخها للقرن العاشر قبل الميلاد عن تمنطق "ارتداء" الملك الحميري شمر يهرعش ابن الملك ياسر يهنعم للجنبية اليمانية.

 

وكانت الجنبية في الأساس خنجرا يرتديه العرب وبدو شبه الجزيرة العربية كجزء من زيهم اليومي، وذلك لأغراض تتعلق بالصيد والدفاع عن النفس، على نحو فرضته طبيعة الحياة البدوية في المنطقة.

 

وبالطبع، مر شكل الجنبيّة اليمنية بتغيرات طفيفة، وتغير مكان ارتدائها نوعا ما، ففي حين كانت يتم ارتداؤها قديما في المنطقة الجانبية مما يلي الخصر، غدت تُلبس عند اليمنيين في الجزء الأمامي مما يلي الصدر، ولعل لهذا التحول علاقة بغرضها الذي تحول من سلاح أساسي في الصيد إلى أداة تقليدية للزينة.

 

استطاعت الجنبية اليمنية الحفاظ على رمزيتها الثقافية، وصمدت في وجه المتغيرات الاجتماعية والسياسية التي مرت على اليمن، وحافظت على مكانتها وقيمتها في التراث اليمني لعدة قرون، لتغدو جزءا أساسيا من الزي التقليدي اليمني، فلبسته كل الطبقات الاجتماعية وكل الفئات في الحضر والبدو، والمدن والقرى، وغدا الاحتفاظ بها نوعا من الإجلال والتقدير لهذا التراث العريق.

 

رمز للهوية

يرتدي اليمنيون الجنابي (جمع جنبية) كجزء من هويتهم اليمنية وزيهم التقليدي، ومع أنها سلاح حاد وقاتل، إلا أن اليمنيين لا يستخدمونها كسلاح، إلا فيما ندر، وفي حالات استثنائية، لأن الغرض الأساسي من ارتدائها هو التزين، والحفاظ على الهوية.

 

يعد لبس الجنبية في بعض المناطق اليمنية، وخاصة في الشمال، وفي المناطق البدوية وسط اليمن، جزءا من شخصية الرجل، ويعد أمرا معيبا إذا لبس الرجال الثوب من غير ارتداء الجنبية، وينتقص من شخصيته كرجل، وعادة ما يتم وصف الشخص الذي يرتدي الثوب من غير الجنبية بـ (المِسْري) أي العريان.

 

ومن أبرز أغراض الجنابي استخدامها في (التحكيم) وحل الخلافات بين الرجال والقبائل، ففي حال اختلف اثنان أو قبيلتان، ورغب أحد الأطراف بالامتثال والاعتراف بالخطأ أو إنهاء المشكلة، فإنه يستل الجنبية ويناولها الطرف الثاني، أو يضعها بين يديه، ويقول له هذا (حكَمك)، أي ما تحكم به ويرضيك فإن هذه الجنبية ( التي تحمل معنى الشرف والرجولة) ضامنة بالسداد والوفاء.

 

ويعد هذا التحكيم ضامنا لرد اعتبار  الطرف الآخر، وعادة ما يلطف هذا التقليد الأجواء بين المتخاصمَين، ويعتبر حلا أوليا للخلاف، وتبقى تفاصيل حل الخلاف مسائل فنية، وكثيرا ما تنتهي الخلافات بين المتخاصمين، بعد التحكيم بالعفو.

 

وفي حال قام أحد الأطراف بالتحكيم ووضع الجنبية بين يدي الطرف الآخر، ثم رفض التسليم بالحكم، يكون قد ارتكب خطيئة قبلية ومجتمعية يلحقه من بعدها عار قبلي، يفاقم المشكلة لا تحل إلا بعد دفع تعويض يصل أحيانا لأحد عشر ضعفا ويسمى (المحدّش).

 

تستخدم الجنبية أيضا في الرقصات الشعبية، حيث يتم استلالها في رقصة شهيرة اسمها "البرَع"، وهي رقصة شعبية تؤدي حركات عسكرية وحربية قديمة، منضبطة وموحدة، وتختلف باختلاف المناطق التي تنحدر منها أو تنسب إليها.

 

صكوك ملكيّة

يعبّر شكل الجنبية عن المنطقة التي ينتمي إليها من يرتديها، ومن خلال شكل الجنبية يمكن معرفة هوية مرتديها، ما إذا كان بدويا أو حضريا، ومن أي قبيلة ينحدر، فهناك الجنبية التي تنحدر من قبائل (حاشد) وهناك جنابي تنتمي لقبائل (بكيل).

 

كما أن هناك جنابي يرتديها بدو مأرب والجوف والبيضاء وشبوة وبيحان، وهي تختلف في شكلها عن الجنابي الذي يرتديها أصحاب صعدة وعمران وحجة وصنعاء.

 

وتتوارث معظم الأسر العريقة جنابي أجدادها الثمينة، وتعد رمزا للعائلة، ويمتلك البعض صكوكا تثبت ملكية الجنبية للعائلة، ويعد من المعيب التفريط بها أو بيعها، مهما كانت الظروف، كما أن سرقتها أو سلبها من مرتديها يلحق العار بالأسرة والقبيلة، وهو عار يعادل سلب رجولته.

 

وفي حال فرط أحد أفراد الأسرة بجنبية العائلة فإنه يلحقها عار لا يرفع عنها إلا باسترداد الجنبية، بشرائها بأي تكلفة وبأي جهد، وعادة لا تسعى لاسترداد الجنابي إلا الأسر المتماسكة، ويحمل الشرف من يستردها من أبناء العائلة.

 

من يرتديها؟

يرتدي الجنابي كل أبناء اليمن باستثناء سكان المناطق الساحلية الحارة في غرب اليمن وجنوبه، ففي الحديدة والشريط الساحلي التهامي حتى عدن والمكلا والمهرة، لا يرتدي معظمهم الجنابي، ولعل عدم ارتدائهم لها يعود لطبيعة الجو الحار الذي يدفعهم للتحلل من الملابس الضيقة أو الأزياء التي تقيد حركتهم وتضاعف لديهم الشعور بالحر.

 

ويرتدي سكان المدن الساحلية زيا مشهورا وموحدا، وهو ملابس رقيقة، عادة ما تكون قميصا شفافا، و(فوطة) وهي قماش رقيق يغطي الجزء الأسفل للإنسان (من الخصر وحتى منتصف الساق).

 

كما يرتدي الجنبية سكان المناطق الجنوبية السعودية، في نجران وجيزان وعسير وما حولها، ولعل ذلك يعود لأن تلك المناطق كانت أساسا جزءا من الجغرافيا اليمنية حتى معاهدة الطائف عام 1934 بين الإمام يحيى حميد الدين والملك عبدالعزيز آل سعود، التي ضمت المحافظات اليمنية الشمالية إلى المملكة لتصبح محافظات سعودية.

 

بالإضافة إلى ذلك يرتدي الجنبية بعض سكان سلطنة عمان، لكنها فيما يبدو لا تحظى بنفس الحضور الذي تتمتع به في اليمن، وارتداؤها في عمان يمثل مظهرا من مظاهر التأثير بين الحضارتين العمانية العريقة واليمنية الضاربة في القدم.

 

أنواع الجنابي

الجزء الأهم في الجنبية هو مقبضها، وتختلف جودة الجنبية باختلاف مقبضها، أي أن مقبض الجنبية هو الذي يحدد جودتها وسعرها، ويتجاوز قيمة بعض الجنابي عشرات آلاف الدولارات، وأشهر الجنابي في اليمن هي جنبية شيخ مشايخ قبايل "بكيل"، الشيخ ناجي بن عبدالعزيز الشايف، وتبلغ قيمتها السوقية نحو مليون دولار.

 

وتقول الروايات إن عمرها يبلغ نحو 1000 عام، وانتقلت ملكيتها للإمام يحيى حميد الدين، مؤسس المملكة المتوكلية في اليمن، ثم انتقلت للشيخ الشايف، وكذلك جنبية الشيخ صادق الأحمر، الذي ورثها عن والده الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، شيخ مشايخ حاشد، وتبلغ قيمتها السوقية نحو 600 ألف دولار.

 

يقول إبراهيم الراعي صاحب متجر الإحسان، أشهر وأقدم متجر في سوق (الجنابي الأصلي) بمنطقة (سوق الملح) في صنعاء القديمة لـ"الاستقلال": هناك أنواع من الجنابي، ولها تسميات معينة:

 

النوع الأول: ويسمى "الصيفاني" (نسبة لأسرة شهيرة احتكرت العمل قديما في صنع هذه الجنابي)، وهي الأجود والأغلى نوعا، وأصبحت حاليا تسمى "العزيري"، نسبة لأسرة معاصرة تحتكر العمل في صنع هذا النوع من الجنابي حاليا.

 

ويتم استخلاص وصنع الجنبية الصيفاني من قرن "وحيد القرن"، الذي يعيش في غابات إفريقيا، في كينيا وإثيوبيا وغيرهما، ويختلف جودة القرن نفسه، فقلب القرن يسمى "أسعدي"، أو "طيّب" وله لون يشبه اللون العسلي الغامق يزداد بريقه الطبيعي مع مرور الزمن، وتزداد تبعا لذلك قيمته.

 

ولا يعرف درجة جودة "الصيفاني" إلا المتخصصون وأصحاب الخبرة، ويبلغ قيمة القرن (الخام) نحو 18 ألف دولار إلى 20 ألف دولار للكيلو الواحد، ويتراوح وزن القرن عادة بين 5 كيلو و20 كيلوجرام.

 

 أما سعر الجنبية، فيختلف باختلاف قدم القرن، فكلما كان قديما كان أغلى ثمنا، والجنابي الطيب أو الصيفاني، تبدأ قيمتها من حوالي 3 ألف دولار فصاعدا.

 

يضيف الراعي، كانت القرون تستورد من دول إفريقية لكنها أصبحت ممنوعة ومحظورة قانونيا في الوقت الحالي، لأن الحصول عليها يتطلب القضاء على حياة وحيدة القرن، وهو ما يهدد بانقراضه، لهذا فقد أصبح الحصول على القران أمرا نادرا جدا، وما يتم جلبه لليمن على ندرته يكون بطرق غير قانونية.

 

النوع الثاني: ويسمى "بَصَلي" أو "زراف" وهو حواف القرن وأطرافه، وهو أقل جودة من قلب القرن، ويأتي ثانيا بعد "الأسعدي" الذي يمثل قلب القرن.

 

النوع الثالث: "المصوّعي" ويستخلص من (خُف الجمل) وهو من فئات الجنابي المتوسطة، وعادة ما يرتديها بدو المناطق الوسطى، في محافظات البيضاء وشبوة وكذلك مأرب والجوف، ولا يتجاوز قيمتها 500 دولار.

 

النوع الرابع:  "الكَرك" ويستخلص من قرن الثور، وهو من فئات الجنابي العادية، ولا يتجاوز سعر الجنبية منه 200 دولار.

 

النوع الخامس: "خشب"، ويستخلص من خشب البرقوق، وله مظهر جميل يشبه أحيانا "الصيفاني"، لكنه من فئات الجنابي العادية، ولا يتجاوز سعر الجنبية منها 100 دولار.

 

الجنابي الصيني

تم إطلاق اسم "الجنابي الصيني" على الجنابي المصنوعة من مواد وقوالب بلاستيكية تسمى "الفيبر"، بحيث يتم استيراد القوالب من الخارج، ويتم تحضير الجنابي على عدة أشكال في محافظات يمنية، وبعضها يتم تحضيره بحرفية عالية بحيث يشبه الجنابي "الصيفاني" عالية الجودة.

 

وفي مثل هذه الحالة، لا يكون قادرا على التمييز بين الجنابي الاصلية والمقلدة إلا أصحاب الخبرة، وإلا فقد يقع الإنسان عديم الخبرة في فخ الغش، ويشتري الجنبية بآلاف الدولارات، بينما لا تستحق 50 دولارا.

 

وهناك أنواع أخرى كثيرة، بعضها مصنوع من البلاستيك وبعضها من الأخشاب العادية، وهي أقل أنواع الجنابي وسعرها لا يتجاوز 20 دولارا، وهي الأكثر شيوعا.

 

نصال "الجنابي"

النصْلة وهي الجزء الذي يشبه السكين، وتمثل الجزء الثاني من الجنبية، ويسميها اليمنيون "نصْلة" وجمعها "نصال"، وهي كلمة عربية فصيحة، يقول المتنبي: فصرت إذا أصابتني سهامٌ : تكسّرت النصال ُعلى النصالِ.

 

وتختلف جودة "النصال" باختلاف قوتها ودرجة صقلها ومقاومتها للصدأ، وأجودها النصال المصنوعة من الفولاذ، وحديدها صلب لا يصدأ ولا يُفل، وأفضل أنواع نصال الفولاذ النصال الحضرمية القديمة، ويصل سعر النصلة منها إلى نحو 400 دولار، يليها نصال فولاذ تسمى "بنز"، وهي فولاذ صلب يفل الحديد، ويستخلص من صفائح ومجنزرات الدبابات.

 

يلي ذلك نصال "ستيل" وهي حديد غير قابل للصدأ، ويأتي بعدها نصال مصنوعة من الحديد العادي، لكنها مصقولة بشكل جيد، وتسمى "التعزي"، نسبة لمدينة تعز، ويأتي في الدرجة قبل الأخيرة النصال "القصبي" وهي حديد عادي، لكن حديدها حاد، وأقل أنواع النصال جودة هو الحديد العادي، ويسمى "المَرْخي"، وهو حديد ضعيف يتعرض للصدأ.

 

أنواع "الزهرات"

الزهرات هي القطع المستديرة التي تزين الجنبية، وعادة ما يكون لونها ذهبيا، ولا تخلو أي جنبية من زهرتين تزينانها، أحدهما في أعلى مقبض الجنبية والثانية أسفلها، وفي الجنابي "الصيفاني" الثمينة عادة ما تكون هذه الزهرات من الذهب الخالص، يكون بعضها من الذهب الحميري القديم الذي يعود تاريخه لأكثر من 2000 عام، وتناقلتها الأجيال من عصر لآخر كعملة ونقود ذهبية.

 

وأحيانا تكون الزهرتان مطليتين بالذهب، وبعضها يكون من الفضة، وبعضها  الآخر من النحاس، وبعضها من الحديد العادي المصبوغ باللون الأصفر .

 

المَبْسم: المبسم هو القطعة المعدنية أو البرواز الذي يتوسط الجنبية ويغطي أسفل المقبض، مما يلي النصل، ويكون في الجنابي الثمينة مشغولا من الذهب، او من الفضة المطعّمة بالذهب، أو من الفضة الخالصة، وبعضها يكون من الحديد العادي، وللمبسم وظيفتان، أحدهما المساعدة في ربط المقبض بالنصلة، وثانية وظيفة ثانوية تتعلق بتحسين مظهر الجنبية.

 

أحزمة ذهبية

الغمد: ويسمى محليا العَسيْب" أو "الجَفر" ويتم صنعه من الخشب، وأجودها خشب الصنوبر  أو خشب الطنب، وهو خشب قوي خفيف الوزن، يغطى بالجلد المدبوغ، وتلف عليه حبال رفيعة وأنيقة بشكل هندسي، ويغطى الغمد أحيانا بصفائح الذهب أو والفضة.

 

الحزام: وهو الحزام الذي يلف حول الخصر، والأحزمة نوعان أساسيان، أحدهما يحاك باليد، والآخر يحاك بماكينات الخياطة، وتحاك الأحزمة اليدوية بخيوط ذهبية رفيعة للغاية.

 

 بحسب إبراهيم الراعي، فإن الخيوط عدة أنواع، بعضها صيني أو ياباني، وهي أقل الأنواع جودة، وتحاك بها الأحزمة التي تحضر بماكينات الخياطة.

 

أما الأحزمة التي تحاك يدويا، فتحاك بثلاثة أنواع من الأقمشة، أعلاها جودة المحاكة بخيوط ذهبية فرنسية، وهي خيوط فضية مطلية بالذهب، كتلك التي تحاك بها كسوة الكعبة، ويتراوح سعرها بين 500 دولار و2000 دولار، ويليها في الجودة الخيوط الهندية، وهي خيوط نحاسية مطلية بلون ذهبي ويصل سعرها لنحو 150 دولار.

 

وتحاك تلك الخيوط مشكّلة نقشات هندسية قديمة وحديثة، يسمى القديم منها (كبسي) نسبة لأسرة شهيرة عملت في هذه المهنة، وبعضها (مفضلي) والآخر (متوكلي) وكذلك (غمضاني) و(حوثي) وكلها أسر عملت في هذه النقشات قديما، وهي نقشات بعضها عربي أصيل، وبعضها تسللت للعربية من الحضارة الأندلسية.