آخر تحديث :الخميس-25 أبريل 2024-03:13ص

أدب وثقافة


المرسم التعليمي الحر

الثلاثاء - 14 أغسطس 2018 - 01:44 م بتوقيت عدن

المرسم التعليمي الحر

عبد الحكيم باقيس - العربي

في الشارع الرئيسي في المعلا في عدن، الذي تصطف على جانبيه عمارات عالية فارهة في إيقاع معماري غاية في الجمال والتناغم، لعله الأول في أبهته على مستوى الجزيرة العربية، شواهد عديدة على لحظات مدينية حديثة غائبة، لم يتح لها الوقت الكافي أن تتشكل على امتدادات الزمان برغم محاولات استعادتها في مختلف المنظورات؛ وبين ترنح رغبات الاستعادة وثبات المكان في مواجهة اهتزازات الفاشلين، تختزن كل زاوية من هذا الشارع جانباً من تاريخ المدينة والمارين بها، يصبح للمكان ذاكرته الخاصة في مواجهة أنواع الغياب، وعتبة مفتوحة على المزيد من الأوجاع ومشاهد النار والدخان.
في إحدى لحظات استدعاء صورة المكان من ذاكرته المتخمة بالألم، وقبل ثلاثة عقود من الآن، في مدخل الشارع من جهة اليمين كانت إشارة ضوئية للمرور بألوانها الزاهية الثلاثة؛ الأحمر والبرتقالي والأخضر، يا لها من علامات سيميائية ضاربة بقوة في عميق الدلالات! كانت واحدة من إشارات وألوان مرورية وغير مرورية، لم يعد لها اليوم أو لفكرتها من وجود، كانت تزهو بها الشوارع، قبل أن تكتسيها عتمة وغبرة كالحة ليست غبرة المارين من الكادحين وحدهم، وإنما طبقات من غبار راكمته مختلف المراحل في انتظار الشوارع أن تنفض غبارها ذات يوم من أجل استعادة بهجة الألوان. 
وإذا كنت في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي ـ زمن فيه بقايا من ألوان أخيرة ـ  ونظرت في اتجاه يمين يمين أول الشارع من أعلاه، سيلفت انتباهك ما تبقى من المطعم الصيني العريق بكتاباته المختلفة، قبل أن تثيرك أطعمته ونكهته المتفردة، وإذا واصلت النظر لأمتار في الشارع سترى «مكتبة دار التقدم»، وهي فرع لـ«دار التقدم الروسية» التي كانت تنشر روائع الأدب الروسي العالمي باللغة العربية في مجلدات بأسعار رمزية مدعومة، سلة كبيرة من أعمال غوغل وتورجنيف وتولستوي ودوستويفسكي وتشيخوف وبوشكين وآخرين أمثالهم بدراهم معدودة، وكتابات لأنجلز وماركس ولينين وفلاسفة ومفكرين آخرين، بثمن بخس، بأقل من قيمة الورق المطبوع.
إذا أنعمت النظر ستجد في أسفل إحدى العمارات مساحة من لون اسمها «المرسم التعليمي الحر» الذي حاول شبابه أن يتعاطوا مبادئ الفنون التشكيلية، وأن يصنعوا مفارقة مدهشة من الألوان: دارسة تقنية المنظورات، طريقة توزيع الظل والضوء بشكل منطقي، تناغم عناصر التكوينات، مزج الألوان واستحداثها، فنون الرسم والبورتريه، بعض المعلومات عن الفن التشكيلي ومذاهب الفن والرسم... أشياء كثيرة كانت أكبر من مساحة مكان المرسم وعتبته الزمانية المترنحة نحو المجهول، لكن هذه المساحة الضيقة كانت مفتوحة في أفق زماني حافل بالدهشة، وعلى أحلام شباب كانوا يتعاطون دروس الرسم بعد الظهيرة من كل يوم بعد أن يفرغ العاملون منهم من أعمالهم، والموظفون من دوائرهم، والطلاب من مدارسهم، يحلمون بأن يصبحوا من الفنانين التشكيليين. شكل المرسم التعليمي الحر البسيط آنذاك على الرغم من قصر مدته، وتجربته التي لم يتح لها تكتمل كذلك، والشارع الذي انبثق منه لوحة كرنفالية من مختلف أنواع الحواس لن يبصرها إلا من ينقب بحب في ذاكرة المكان.
ارتبطت فكرة المرسم التعليمي الذي يتيح للهواة والمحترفين ممارسة الرسم وتلقي مبادئه بحرية تامة، والانفتاح على الممارسة التطبيقية بعيداً عن الطابع المدرسي النظامي، فالفن في جوهره حالة من التمرد على المألوف، بمبادرة فنانة من شخصيات فنانة في وزارة الثقافة في عدن، تنتمي إلى عالم الفن والإبداع الأصيل، وإلى فكرة جماهيرية الفنون والوعي بأهميتها، وبالاتساق مع فعاليات شبابية وثقافية كانت في الثمانينيات مثل جمعية التشكيليين الشباب، وإقامة معارض الفنون التشكيلية، كان المرسم ومضة قصيرة من التاريخ الثقافي للمدينة لكنها كاشفة عن معاني كثيرة في ثنائية الفن والحياة.
أذكر حين ذهبت لتسجيل اسمي في المرسم مقابلة الفنان الكبير الباسم بسخاء محمد عبده زيدي (رحمه الله)، الذي كان مديراً لدائرة الفنون الجميلة، والفنان التشكيلي الكبير عبدالله الأمين الذي أظنه أحد القائمين على فكرة المرسم التعليمي، بالإضافة إلى آخرين، وفي المرسم كان الفنان الكبير محمد دائل يقدم دروسه وخبراته التشكيلية بمحبة وكرم أصيل، أما بعض الزملاء من رواد المرسم من شباب الهواة، فقد أصبحوا اليوم من الفنانين الكبار، ليس لأنهم قد تخرجوا من المرسم، فهو لم يكتب له الاستمرار، وإنما لأن أكثرهم قد وجد من خلاله النافذة التي يطل من شرفاتها إلى عالم من الفن والجمال.
واليوم هل يمكن استعادة فكرة المرسم التعليمي الحر من جديد، فيما يمكن استعادته من صور الحياة في مواجهة مشاهد الموت والدمار، هل يمكن أن يبادر الفنانون بالتعاون مع قسم الفنون الجميلة في كلية الآداب في جامعة عدن ـ مثًلا ـ إلى فتح دورات مسائية للهواة وتنظيم المعارض الفنية للأعمال المتميزة، وأن يتحول المرسم من فكرة ثمانينية شاردة إلى حالة إبداعية واقعية.