آخر تحديث :الخميس-25 أبريل 2024-11:21ص

أدب وثقافة


عودة الغائب (قصة قصيرة)

الخميس - 10 مايو 2018 - 06:02 م بتوقيت عدن

عودة الغائب (قصة قصيرة)

بقلم: عصام عبدالله مسعد مريسي

في كوخها الخشبي وهي تجلس القرفصاء وباب الكوخ مفتوح على مصراعيه وإلى جوارها دلة القهوة المحمصة بأناملها التي ارتسمت عليها التجاعيد بعدد السنين التي انقضت من عمرها وهي تنظر إلى جهة البحر بأمواجه المتلاطمة تقلب بصرها في قارب الصيد الذي كان يقطع ولدها به عباب الماء قبل أن ينطلق مع رفاقه إلى ساحة الشرف من أجل تحرير البلاد ودون أن تشعر تسقط دمعة حارة من مدمعها تيقظها من غفلتها في عالم التفكير في غيبة ولدها الذي لم يعد منذُ ذهابه إلى جبهة القتال فقد عاد كثير من أصحابه ورفاقه ولم يعد هو .

مازالت تقلب بصرها متأملة في قارب الصيد والشمس تحزم أشعتها معلنة الرحيل وخيوطها الذهبية تنعكس على صفحات الماء ومن بعيد  تترأى من بعيد ملامح انسان قادم غير واضح الملامح كسراب يرتسم على جوانب الماء المالح والرمل ، تمدُّ يدها لترتشف قليلاً من كأس القهوة بجانبها  وهي تقول في نفسها:

هل هذا القادم ولدي الغائب

تمسح عينيها بأطراف أناملها المرتعشة  وخاطرها يكاد يشق صدرها وينطلق نحو القادم يتحسس من هو، لحظات حتى وقف ظل القادم ليمسح على رأسها بكفه المتجلد  ويتسرب الدفيء إلى إعماقها شيئاً فشيئاً ، تحاول أن تنتصب فإذا به يهوي ويجلس على ركبتيه ويسندهما إلى ركبتيها ويقبل رأسها وهو يشم رائحة دهن شعر أمه العابق برائحة الزعفران والخوع وتمتدّ ذراعيه ليحتضنها وتمدّ يديها تداعب شعر  رأسه وهي تقول:

ولدي . الحمد لله أني رأيتك قبل أن أودع الدنيا

ثم تجذبه إلى حضنها وهي تلف ذراعيها المرتعشتان حول صدره وظهره وتشم عبق عرقه وتمرق عينيها مترهلة الاجفان لتلتقي بعيني ولدها الهاربتان من النظر في عيني أمه ، بإحساس الأم الذي جمعت خبرة السنين بأمور الدنيا   يغرر في حنجرتها سؤال كاد يخنقها ولم تستطع حبسه في صدرها:

جئت في إجازة ؟ أم..............

مازال السؤال مخنوق بين حبال حنجرتها لم يستطع الانطلاق، تحاول لملمت  مشاعرها وتدفع بالسؤال الحائر في حنجرتها:

لماذا؟ تأخرت ؟ .. ولماذا جئت الأن ؟

ما زال شارد البصر فارٍ به من عيني أمه ، والصوت في حنجرته يتلعثم  غير واضح ومفهوم ، وبفطنة الأم الطاعنة في العمر:

 لقد فررت من المعركة

يجيبها بصوت انهزامي وعينيه لا تفارق أرضية الغرفة المفروشة ببساط من سعف النخيل:

اشتد الخطب وحمى الوطيس وكثف الأعداء نيرانهم  ودبَّ الخوف في نفسي ...

يستغرق في أخذ نفس عميق مع أحساس بالندم ثم يواصل الاجابة على سؤال أمه:

ففررت من أرض المعركة

تدفعه بعيداً عنها محاولةً النهوض فيندلق كأس القهوة على خيوط العزف المصنوع منه بساط غرفتها ويسقط ولدها مستلقياً على الأرض في حين  تحاول النهوض مستندة على الأرض بكلتا يديها لتقف تنظر من شرفة الغرفة المطلة على شاطئ البحر وقارب الصيد الخاص بولدها مستلقي على الشاطئ وكأنه في حال قيلولة بعد غياب صاحبه.

أخذ يلملم نفسه ويجمع ما تناثر من محفظته ويمسك ببندقيته وينهض مغادراً وقبل أن يفارق زوايا الغرفة تستدعيه بصوت مترنح بين الخوف والقوة:

انتظر .. اغتسل وغير ملابسك واستريح حتى أعد لك العشاء .. ومن صباح الغد عد إلى جبهتك  وكن إلى جانب رفاقك

وضع بندقيته مستنده إلى أحد زوايا المنزل وأقبل نحو أمه وانثنى يقبل   كلتا يديها ورأسها وهو يقول:

سامحيني أمي لن أخذلك أبداّ .. ولن أعود إلا والنصر محفوفة في ثنايا بندقيتي أهيدك أياه تاجاّ على رأسك.