آخر تحديث :الأربعاء-24 أبريل 2024-02:19ص

حوارات


حسين الوادعي يتحدث عن انسداد الأفق السياسي

الإثنين - 12 يونيو 2017 - 06:18 م بتوقيت عدن

حسين الوادعي يتحدث عن انسداد الأفق السياسي

القبس

منذ سقوط جدار برلين وقيام ما سمي بثورات الربيع في الدول التي كانت خاضعة للنفوذ السوفيتي، سابقا، ظهر عالم أحادي القطب، وبدا أن الديموقراطية الليبرالية انتصرت، وحلت فكرة العولمة بوعود التعايش وفق نظام منفتح موحد المعايير. بيد أنه ما لبثت ظاهرة صراع الهويات أن انفجرت في أوروبا نفسها. وفي عالمنا العربي برزت النعرات الطائفية وبمحاذاتها صراع الإسلام السياسي مع الدولة الحديثة. زادت حدة هذا الصراع إلى درجة تمزيق الدولة أشلاء، وتهديد السلم الاجتماعي واضطهاد الأقليات بصورة غير مسبوقة أفضت إلى موجات من الهجرات، ومن تفريغ المجتمعات من تنوعها، أو تحويل هذا التنوع نفسه إلى عصبيات منغلقة، لكنها قابلة للاشتعال والتفجر. فشلت ثورات الربيع العربي في إحلال صيغ ديموقراطية متطورة تسهم في ترسيخ دولة المواطنة ما يعود في قسم منه إلى دور الإسلام السياسي في تحويل مسارها. والقبس تفتح هذه الملفات الشائكة بمساهمة عدد من المفكرين يشتركون في تحليل الوضع القائم ووضع صيغة للتعايش والسلم الأهلي وتدعيم مفهوم عقلاني للدولة.
حسين الوادعي كاتب من اليمن. يعمل خبيراً في مجال الاتصال التنموي والتدريب الإعلامي مع عدد من المنظمات الدولية. ينشر مقالاته في عدد من الصحف والمنصات الإلكترونية العربية. مهتم بقضايا الإرهاب والعلمانية والطائفية والتدين وتجديد الفكر العربي وتحولات الوضع السياسي بعد الربيع العربي. لديه اهتمام خاص بالشباب وتهيئة منصات تنويرية للتخاطب معهم.
وهو يرى في حديثه مع القبس أن الشعبوية السياسية إجابة خاطئة عن أسئلة صحيحة يؤشر تفشيها شرقاً وغرباً إلى انسداد الأفقين السياسي والاقتصادي. ويحيل أسباب التخلف في العالم العربي إلى الاكتفاء باستيراد منجزات الحداثة الغربية والانكفاء عن «ثقافة» الحداثة. ويقارب الوادعي ظاهرة الإرهاب بأسبابه المباشرة وعوامله المساعدة، مفنداً كليشيه «الإرهاب كرد فعل» يحول الإرهابيين أبطالاً ويرى أن الإرهاب لا يرفض الاستبداد لأنه يطالب باستبداد أشد.

الهوس بالحاكم المتسلط
◗ تتفشى الشعبوية السياسية والثقافية على نطاق عالمي اليوم. هنالك من يقول إن السبب هو سيطرة الإعلام الجماهيري والاستهلاك، والبعض يقول بانحسار دور الثقافة والمثقفين، وهنالك من يعيد السبب إلى ندرة رجالات السياسة أصحاب الرؤى الحقيقية الفاعلة.
– لا يمكن عزل الشعبوية السياسية والثقافية عن الإطار الاجتماعي والسياسي الذي يساعد على نموها. ومهما تعددت الشعبويات، فهناك قواسم مشتركة بينها. فهي معادية للحرية، كارهة للأجنبي، ومهووسة بالقوة والحاكم المتسلط. معاداة الحرية وكره الأجنبي – المختلف والهوس بالحاكم المستبد القوي تجمع بين الشعبوية اليمينية في أوروبا وأميركا، والشعبوية البوتينية في روسيا، والشعبوية الإسلاموية في تركيا والعالم العربي.
الشعبوية إجابة خاطئة عن أسئلة صحيحة، واستجابة معكوسة لوضع متأزم. فهي استجابة لإنسداد الأفق السياسي والثقافي والاقتصادي. انسد الأفق السياسي في الغرب بجمود الديموقراطية وتشابه المرشحين وبرامجهم بحيث صار المرشح اللاحق نسخة عن السابق، وبرنامج الحزب الجديد نسخة عن سلفه. تحولت الديموقراطية إلى ممارسة شكلية لا تغيّر شيئاً في الواقع المتأزم في الغرب رغم نزاهة الانتخابات وشفافية الاختيار. وتحولت الديموقراطية إلى «انتخابوية» مزيفة في العالم العربي تعيد انتخاب الحزب نفسه والرئيس نفسه في دائرة مغلقة.
في هذه الظروف بدأت الجماهير تكفر بالديموقراطية وتشكك في جدواها، فظهرت الشعبويات اليمينية في الغرب لترفع شعار الزعيم القوي القادر على جعل الأمة قوية مرة أخرى. وظهرت شعبويات «الشرق» لتمزج الدين بالسياسة والطائفة بالدولة.

اطردوا الأجنبي
وتابع الوادعي: أما الحل الذي تطرحه الشعبويات للأزمة الاقتصادية فهو «اطردوا الأجانب». خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وانسحبت أميركا من اتفاقيات التجارة الدولية معتقدة أن «الآخرين يخطفون وظائفنا وصناعتنا وأموالنا»، والحل هو الانغلاق على الذات الاقتصادية وحماية الاستثمار الوطني. لم يكن متوقعاً أبداً أن تأتي أكبر عملية رفض للعولمة من داخل الغرب نفسه لا من داخل «العالم الثالث»، وأن تصعد صرخات «الحفاظ على الهوية» من داخل العالم الغربي بنفس قوة صعودها من داخل العالم الإسلامي.
التأكيد على وجود هوية حصرية في حالة حرب دائمة مع «الآخر» هو الأرضية الثقافية للشعبويات بمختلف أنواعها كما تتجلى في حالتي ترامب وأردوغان. بنى ترامب خطاب حملته الانتخابية على وجود تهديد للهوية الأميركية من قبل المسلمين والمهاجرين اللاتين، ولا حل لهذا التهديد إلا بناء سور عازل ضد المكسيكيين ومنع دخول المسلمين إلى أميركا والمراقبة الدقيقة للمسلمين – الأميركيين.
في الجهة الأخرى يبني أردوغان خطابه الشعبوي على وجود مؤامرة غربية صليبية ضد الهوية الإسلامية لتركيا، وبالتالي التأسيس لصراع أبدي بين الإسلام والغرب لن ينتهيى إلا بفوز أحد الطرفين. وبلغ الخطاب الشعبوي الأردوغاني ذروته بمطالبته الأتراك المهاجرين في أوروبا بالتوالد من أجل السيطرة على المجتمعات الأوروبية من الداخل!
لقد استطاعت الشعبوية إعادة صياغة المجال السياسي بحيث صارت قضايا الإرهاب والمهاجرين هي القضايا الرئيسية في الانتخابات الأوروبية، وصارت قضايا الصراع السني – الشيعي، والهوية الدينية محور الصراع السياسي المحتدم في العالم العربي.

المذهبية تراث وحداثة
◗ من يصنع هذه الضوضاء المذهبية في العالم العربي؟ الماضي أم الحاضر؟ السياسة أم الدين؟ إيران أم التدخلات الغربية؟
– كان الصراع المذهبي السني – الشيعي حقيقة مستمرة في التاريخ الإسلامي. وكانت الدول الإسلامية المتعاقبة دولاً مذهبية تأتي على انقاض دولة مذهبية فتسقطها وتستولي على السلطة والمجتمع معاً. وكانت هناك انقلابات درامية في الانتماءات المذهبية للمجتمعات العربية. فقد انتقلت مصر من الانتماء المذهبي الفاطمي إلى الانتماء السني بتغيّر الحاكم، وانتقلت إيران من الانتماء السني إلى الانتماء الشيعي الصفوي بإرادة الحاكم أيضاً.
البطل العربي الملهم للمخيال البطولي العربي صلاح الدين الأيوبي كان قاهر الغزو الصليبي، ولكنه أيضاً كان مقاتلاً أكثر شراسة ضد المنافسين الشيعة، وابن تيمية كان مناضلاً عنيداً ضد التتار، ولكنه كان أيضاً صاحب معركة مقدسة ضد الشيعة. في اليمن كان الإمام عبدالله بن حمزة مثالاً للتوحش ضد «الآخر المسلم» حتى أنه أفتى بكفر كل المخالفين من المذاهب السنية الأخرى ووجوب نهب أموالهم واسترقاق نسائهم، ثم جاء بعده الإمام القاسم ليصدر فتواه الشهيرة بأن شافعية اليمن «كفار تأويل»، وبالتالي يجب أخذ الجزية منهم بدلاً من الزكاة!
الصراع المذهبي في التاريخ حقيقة مرّة نحاول إخفاءها. أما صراع الحاضر، فجزء منه استمرار للماضي، ولكنه أيضاً نتيجة لتطورات ومصالح الحاضر. إن تأسيس السعودية عام 1932 وتأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية عام 1979، وبينهما قيام الدكتاتوريات العسكرية العربية، هي اللحظات المفصلية في الانقسام المذهبي الحاد الذي نعيش اليوم معاركه الدموية في العراق وسوريا ولبنان واليمن. صار للعالم الإسلامي مركزان مذهبيان: واحد شيعي من طهران، والآخر سني من الرياض، وصار المركز الشيعي يبتلع الانتماءات الشيعية (علوية وزيدية وإسماعيلية) ويعيد صياغتها ضمن شروط ولاية الفقيه وتصدير الثورة، وصار المركز السني يبتلع الانتماءات السنية (شافعية ومالكية وحنفية وحنبلية) ليعيد صياغتها ضمن إطار أيديولوجيا التوحيد والجهاد.
لا شك في أن القوى العظمى تلعب على التناقضات المذهبية لضمان مصالحها، ولكن محددات ومغذيات الصراع المذهبي الحالي أغلبيتها نابعة من الداخل، من حالة التأزم التاريخي الطويل والانقسام المذهبي – السياسي المعاصر.

استبداد بصناديق اقتراع
◗ تحدث كثيرون في السابق عن اعتبار التخلف العلمي والتقني سبباً رئيسياً في تأخر البلدان العربية. ربما صار هذا السبب من الماضي. هل يمكن التفكير اليوم بسبب أخلاقي للتأخر؟
– ليس هناك ما هو أسهل من استيراد التكنولوجيا. ولكن التكنولوجيا ليست التقدم وليست النهضة. ظلَّ تيار الفكر الديني والاجتماعي المحافظ يدافع عن فكرة أننا يجب أن نستورد «منتجات» الحضارة الحديثة من دون الحاجة إلی تبني «الثقافة» التي أنتجت هذه الحضارة.
كانوا يرون أننا يجب أن نستورد المصنع والسيارة والصاروخ من دون الحاجة لتبني العقلية العلمية التي أدت إلی هذه المنجزات! وأننا يمكن أن نستورد الديموقراطية من دون الحاجة إلی تبني قيم العقلانية والعلمانية والمساواة التي بنيت عليها الديموقراطية. وأننا نستطيع «تحديث» مجتمعاتنا بنفس الثقافة القديمة ما دام التحديث يمكن أن يتم بالوسائل والأساليب من دون العقليات!
وحصل ما حصل.. استوردنا الآلات والأسلحة من دون العقلية العلمية التي تعرف خطرها وشروط استخدامها، فحولنا بلداننا إلی ساحات حروب لا تنتهي.
استوردنا الديموقراطية من دون ثقافتها، فحولنا الديموقراطية إلی إعادة إنتاج للاستبداد عبر صناديق الاقتراع. استوردنا الكتاب من دون التفكير النقدي، فحولنا الكتب من وسيلة تثقيف إلی وسيلة لنشر السلفية والإرهاب والتطرف والخرافة. استوردنا وسائل الإعلام من دون ثقافتها المهنية والمصداقية والحياد، فحولناها إلی منابر للتزييف وإثارة الكراهية والطائفية. استوردنا المدرسة من دون فكرة التعليم الحواري، فحولنا المدارس إلی أوكار لتجنيد الشباب لمصلحة القاعدة وداعش وأنصار الله.
بعبارة مختصرة.. استوردنا منتجات الحداثة من دون ثقافة الحداثة، فتحولت هذه الوسائل إلی أسلحة تسعى إلى تدمير الحداثة التي أنتجتها!
كان خطأ التيار المحافظ اعتقاده بأن هناك «ثقافة» عربية ثابتة لا تتغير. وأن أي تغيير في هذه الثقافة حتی ولو بعد 1400 سنة من نشأتها تغيير غير مقبول.
استمررنا في استيراد منجزات الحضارة ورفض ثقافتها وعقليتها، حتی فوجئنا بأساليب التحضر والرفاهية وهي تتحول إلی أساليب دمار وموت. السيارة مثلاً تتحول من وسيلة نقل إلی وسيلة استعراض وتفخيخ وموت. والسينما تتحول من وسيلة تثقيف وترفيه إلی أداة لتصوير الحفلات الداعشية لقطع الرؤوس. والإنترنت تتحول من وسيلة إعلام وتفاعل إلی أداة لتجنيد مزيد من القتلة باسم الخلافة والجهاد. ما عملناه كان أشبه بوضع قنبلة ذرية في يد رجل بدائي. وهذا الرجل البدائي فخور بثقافته البدائية التي يرفض أن يغيرها.

سياسة المشاريع الفردية
◗ يبدو اليوم أن السياسة والممارسة السياسية بكل أشكالها إلى تراجع وانحسار لمصلحة اهتمامات أخرى فردية وغير جماعية، كالرفاه والاستهلاك والنجاح الفردي أو الشخصي. أليس هذا من نتائج الحداثة وما بعد الحداثة والعولمة؟
– هدف السياسة النهائي هو تحقيق الرفاه الفردي والجماعي، فإذا تحقق الرفاه طبيعي أن تتراجع السياسة. وأنا أنظر للحداثة والعولمة بعين إيجابية باعتبارها استمرارية لمسيرة التنوير والتطور والانتقال إلى مجتمعات أفضل. اضطر كثير من الشباب إلى ترك مشاريعهم الشخصية والانخراط في العمل السياسي بسبب غياب البيئة المحفزة والملائمة لنجاح مشاريعهم. لا أريد أن أبدو طوباوياً، ولكني اعتقد أن المجتمع المثالي هو المجتمع الذي تتراجع فيه السياسة (بالمعنى المباشر للكلمة)، لأن هذا المجتمع حسم معاركه لمصلحة الحرية والديموقراطية والتعددية، وصار متفرغاً لمشاريعه الشخصية الناجحة.
وإذا خُيرّت بين مجتمع من المنخرطين في السياسة ومجتمع من المنخرطين في مشاريع النجاح الفردي، فسأختار الأخير، لأن نجاح الأمة هو مجموع نجاحات الأفراد في بيئة ملائمة ومحفزة.

الديموقراطية والعلمانية
◗ ما الصلة بين الديموقراطية والعلمانية والتدين السياسي اليوم، خصوصا في البلدان العربية؟
– أريد أن أؤكد على محورية «الديموقراطية والعلمانية» كحل للخروج من الأزمة. الديموقراطية في مواجهة الاستبداد السياسي – العسكري، والعلمانية في مواجهة الاستبداد الديني والانقسام المذهبي. للأسف كانت الثقافة السياسية العربية قد أقفلت النقاش حول الديموقراطية في خمسينات وستينات القرن الماضي بعدما اعتبرتها مجرد «لعبة برجوازية» لا تخصنا لأن «الخبز مقدم على الحرية» والأولوية لتحقيق «الديموقراطية الاجتماعية»، ثم أقفلت الثقافة السياسية العربية باب النقاش حول العلمانية في تسعينات القرن الماضي بحجة أن العلمانية إشكالية غربية لا تعنينا لأن «الإسلام دين ودولة».
لكن الديموقراطية الاجتماعية تحولت إلى استبداد عسكري وفقر اجتماعي، وتحول «الإسلام دينا ودولة» إلى انشقاق مذهبي وتديين متوحش للسياسي. وهذا ما بعث النقاش من جديد حول الديموقراطية والعلمانية كجناحين لا بد منهما للانتقال من مجتمعات الفتنة إلى مجتمعات الإنجاز.

الإرهاب ليس صنيعة الفقر

◗ كتبت مؤخراً أن لا علاقة للفقر والبطالة والأمية بالإرهاب واعتبرت أن الاستبداد هو عامل مساعد ليس إلا.. ما برأيك العوامل التي ساهمت في انتشار الإرهاب؟
– الإرهاب ظاهرة معقدة ولا يمكن أن نعتبرها مجرد «رد فعل» للبطالة والاستبداد. بالتأكيد ينتشر الإرهاب أكثر في البيئات الفقيرة والاستبدادية لكن الإرهاب لا يرفض الاستبداد بل يطالب باستبداد أشد، ولا يهتم للبطالة لأنه يرى أن الاهتمام بالوظيفة والنجاح الفردي نوع من الخنوع.
ظهر الإرهاب في الدول الفقيرة والدول الغنية وفي الدول المستبدة والدول الديموقراطية، والإرهابيون متعلمون ومندمجون في المجتمع ولا يعاني أغلبهم من مشاكل مادية ولم يسجنوا أو يتعرضوا للتعذيب مما يعني أن فرضية «الإرهاب رد فعل» لا تساعدنا على فهم الإرهاب، بل إنها تحول الإرهابيين إلى أبطال يموتون دفاعاً عن الفقراء والمظلومين.
ليس الإرهابي شيطاناً بل شخص عادي جداً آمن بأيديولوجيا خلاصية شمولية، وآمن أن العنف هو الوسيلة الوحيدة لتحقيقها، ووجد تنظيماً يستوعبه، وتمويلاً يساعده على الإنجاز، وتكنولوجيا تنقل إرهابه إلى المستوى العالمي.
لا يمكن إنكار دور القهر والفقر والاستبداد في نمو الإرهاب كعوامل مساعدة، لكن عندما أحاول تفسير ظاهرة الإرهاب الديني، وبالذات إرهاب القاعدة وداعش وأخواتهما فإنني أرى أن رباعي «الايديولوجيا، التنظيم، التمويل، التكنولوجيا» هي العوامل الرئيسية في نمو الإرهاب، وانظر إلى «البطالة، الفقر، الاستبداد، التدخل الخارجي» كعوامل مساعدة.