آخر تحديث :الإثنين-13 مايو 2024-01:39م

ملفات وتحقيقات


الذكرى الاولى لوفاته (13 فبراير) .. محمد سعيد الذي لا نعرفه

الإثنين - 13 فبراير 2017 - 09:57 م بتوقيت عدن

الذكرى الاولى لوفاته (13 فبراير) .. محمد سعيد الذي لا نعرفه
الفقيد الزميل محمد سعيد

كتب / نجيب مقبل

* محمد سعيد ابن التواهي واحد من النماذج العدنية الأصيلة في تواضعه وإنسانيته وحبه للإبداع

* رسوماته الكاريكاتورية، رغم خلوها من السخرية الفاحشة؛ فإنـَّها بهدوئها عبَّرت عن أدقِّ معاناة المواطن العادي

* عانى من رهاب (الزحمة) بسبب سجنه قهرًا في زنزانة مكتظة باللحم البشري في مقر الأمن السياسي بالتواهي!!

دافع عن بيته وعن حقه في السكنى الكريمة، كما يدافع الجندي عن حمى الوطن، والرجل الحرُّ عن شرفه وعرضه

فنان شامل جمع بين فن الخط ورسم اللوحات الانطباعية والبروفيلات، وفن الكاريكاتير، والإخراج الفني

* لم يقوَ على مقارعة الزمن والمرض فسقط في أول أيام كهولته وهو شاب القلب – نظيف الخيال

قال لي: لا استطيع أن أؤدي صلاة الجماعة في المسجد!!

وأردف : أشعر وكأن الناس في صفوف الجماعة يضغطون على صدري، ويكظمون أنفاسي، بهذا الفصح الكظيم سرَّني حين زرته قبل عشر سنوات، إثر ملمة ألمت به.

عرفت أنَّ هذا هو (رهاب الزحمة) تمامـًا، كما هو (رهاب الأماكن العالية) أو (رهاب الخوف) من الثعابين والفئران.. إلخ وغيره من ألوان الرهاب المعروفة نفسيـًا.

كم كان صاحبي محمد رهيفـًا وشفافـًا ومسالمـًا ولا يقوى بروحيته النقية على مقاومة الضغوط الكبرى التي هجمت عليه فجأة.

والقصة تبدأ حين حاول بعض من المتنفذين وبقوة البلطجة ومن ورائهم سلطة العسكر والأمن أن يخرجوه عنوةً من بيته الضيق والبارد، الذي بدا كأنـَّه مكمن أو قفص وليس بيت أسرة سعيدة ومع ذلك أرتضى به سكنـًا.

كان هذا البيت هو (ضماره) الوحيد الذي خرج به من الحياة على علاته من الظلمة والرطوبة، إذ هنالك من أراد أن يستكثر على (محمد سعيد) الفنان المرهف والإنسان المستضعف أن يخرج بهذا (الضمار) الذي رآه بيت الأحلام؛ لأنـَّه بدونه سيكون في الشارع هو وزوجته وأبناؤه!

رفض ابتزازات أصحاب النفوذ وما مارسوه من أساليب الترغيب والترهيب، فانتهت قلوبهم الغليظة، وترسانة قوتهم الأمنية أن يزجوا به في زنزانة محشورة في مقر الأمن السياسي الذي يقطن غير بعيد منه في التواهي.

ومع الزنزانة كانت وقصة الرهاب الفظيع.. قال:

كنا في زنزانة مع عشرات من المسجونين في أمتار محدودة، وكان الواحد منـَّا يقفز إلى أعلى ليلحق بالكوة الصغيرة ليستنشق منها الهواء المطلوب لرمق الحياة فقط.

هذا هو محمد سعيد هذا الرجل المرهف، صاحب الأخلاق السامية، والفضائل المرسلة والفنان الذي لا يعرف للقوة معنى في حياته، وللبلطجة سطرًا في قاموسه، ولا للتحرش أو إيذاء الجار أو الغير عنوانـًا في ممارساته الحياتية.. كان هذا الإنسان الخالص النية يرزح تحت قهر هذه القوة الغاشمة، والسجن في زنزانة الأمن التي لا يمكن لخياله أن يصل به إلى تصور حقيقتها واقعة عليه.

كل هذا الترهيب من السجن في زنزانة تشبه السردين البشري، والتحقيق بعبارات الوعيد والنذير مضى هباءً دون يأخذوا منه توقيعـًا بالتنازل عن مسكن استحقه وصار عنوان الحياة أو الموت بالنسبة له.

ظل محمد سعيد صامدًا دون أن يقهره جلادوه، ولم ترعبه أساليب المحققين في السجن، وعاش أقسى تجرِبة في حياته؛ أيامـًا حالكة تحت ركام من اللحم البشري يضغط على روحه ويكظم أنفاسه.. ويقتل فيه كل مشاعر الحياة والبقاء الحر، ليخرج من هذه الزنزانة المرعبة بالتجرِبة القاسية ومن بين يدي جلاديه الذين كانوا يعرفون أنـَّه صاحب حقٍّ، ولكنـَّهم ظنوا أنـَّهم يستطيعون أن يكسروا فولاذ صموده الأسطوري.. خرج مبتليًا بهذا الرهاب الفظيع: رهاب الزحام.. الذي لا أدري هل ظل يلازمه طوال حياته.

قصته هذه مع الزنزانة المحشورة والرهاب النفسي الفظيع تفصح عن معدن هذا الرجل الأصيل، أنـَّى لفنان مرهف.. وإنسان متواضع.. وأب حنون.. وزميل لا يختلف على نقائه وشفافيته زملاء المهنة في إدارة الإخراج الفني، وفي أسرة تحرير صحيفة (14 أكتوبر) وربما جيرانه وأهل مدينته أن تنبس شفة أحدهم بغير القول عن أخلاقه الحميدة وتواضعه الجم، والواحد منهم يحاول جاهدًا أن يدمجه معهم ليشركه في ضحكة أو مسألة أو رأي، وهو ناءٍ بنفسه عن كل هذا.

لقد كان محمد سعيد عبدالله ابن التواهي، واحدًا من النماذج العدنية الأصيلة، في دماثة الخلق ونقاء السريرة، ورهافة الحس والمشاعر، ومثله لا يقوى على مقارعة زمننا الصعب وأحداثه الجسام فسقط في أول أيام كهولته وهو لا يزال شاب القلب والإحساس والخيال النظيف.

كان إذا اشتكى من مظلمةٍ أو غبنٍ وقع عليه ترى وكأن جلاميد من القهر تسقط عليه، فتكاد أن توقع كيانه أرضـًا، هكذا كان شفافـًا لا يقوى على تقبل القهر والغبن، ولا يقوى على مقاومتهما؛ إلا بأسلحته السلمية، تبدأ من الحياء والاستنكار الحييِّ وتنتهي بإبداء أشد أنواع التعبير عن القهر.

ولأنـَّه كذلك تجده قليل الشكوى كظيم البوح بما يعاني، وإذا رأيته كذلك سألته بحاستك السادسة : ما لك يا محمد؟ في حاجة؟ ولا يندلق بشكواه؛ إلا لمن يأتمن عليه، ولا يفضي بمكنوناته؛ إلا بعد إلحاح منك عليه، ويبوح بما يعاني مع عزة نفس مضمرة.

رسوماته الكاريكاتيرية كلها برغم ما يبدو عليها عند البعض خلوها من خفة الدم والسخرية الفاحشة؛ فإنَّ سخرية كاريكاتيراته هادئة وصارمة، ولكنها مع ذلك تدق أوتار المعاناة – كما يراها في منزله أو شارعه أو مدينته – فلا يخلو كاريكاتير منها من شكوى من قلة اليد التي يعاني منها الموظف المتوسط الحال أو الفقير المدقع، أو من حال الاختلالات البيئية والصحية أو السلوكيات النابزة.. فكأن الكاريكاتير هي عينه الناقدة التي من خلالها يرى ويشاهد مظاهر الحياة السلبية ويفجرها في رسوماته بريشته المرتعشة أحيانـًا والصلبة أحيانـًا أخرى، وكلها عناوين مقاومته الشفافة والسلمية والحضارية لكل سلبي في الحياة ونابزٍ في السلوكيات ومعوجَّ في التصرفات من المسئول حتى المواطن.

ومع ذلك لا تجد أمام منزله سوى لافتة "الخطاط محمد سعيد" وكأنـَّه لا زال يستدعي حرفته القديمة الجديدة مهنة "الخطاطة" التي يحاول من خلالها أن يجد دخلاً جانبيـًا يساعده في تصريف أمور حياته البيتية، وبالطبع هي لا تكفي؛ لأنـَّه عطوف ومتساهل في الأجر إلى حدِّ أخذ الأجر الذي يغطي كافة الألوان والورق الشفاف فقط دون أتعابه!!

محمد سعيد عبدالله رجل صامت بطبعه، ربما لا تقوى الكلمات أن تخرج من فمه بصوتٍ ناصح، ويحتاج الأمر منك أن ترهف السمع لتسمع ما يقول.

هو لا يفتعل هذا الصمت المتوَّج على لسانه؛ لأنـَّه لا يقول؛ إلا الشيء النزير من الكلمات، وإذا اشتكى أو حتى تملكه غضب من قول أو فعل ضرَّه في شيء؛ فإنَّ حدود الانفعالات لا تتعدى كلمات بسيطة وهامسة.

زميلنا محمد سعيد عبدالله الفنان والخطاط ورسام الكاريكاتير والمخرج الصحفي افتقدته الأسرة الصحفية العدنية وأسرة تحرير (14 أكتوبر) على وجه الخصوص، بعد أن هدّّ كيانه ضعف قلبه وتساقط دعاماته، وبدا في آخر أيامه شاحبـًا وهزيلاً، والكل حين اجتمعنا في ردهة مصرف الكريمي قبل شهرين نتساءل بتعجب ودهشة وحيرة بالغة التأثر: أهذا هو محمد سعيد؟ أهكذا يفعل المرض بجسمه حتى ينحل حتى آخر عظمة في الجسد.

كان الرجل يعاني من تهافت عضلات قلبه وانسدادات شريانه، وتساقط دعاماته.. كان صامتـًا كعادته لا يشكو مرضه لأحد، وزادت الفرقة التي أحدثتها الحرب بيننا أن غبنا عن السؤال عنه وعن حاله حتى شاهدناه في هزاله ذاك.

شمعة محمد سعيد عبدالله لم تنطفئ بعد، رغم رحيله الدنيوي عن هذه البسيطة، لم تزل مضيئة؛ لأنَّ (من خلـَّف ما مات)... فهاهما (مراد) و(مجد) قد نهلا من أبيهما حبه للفن والجمال والتوق للإبداع، وربما سارا في جزءٍ كبيرٍ من ناصية الطريق الذي سار عليه في حياته..

وها هو (مراد) ذو اليد الذهبية والعقلية المتفتحة والمبدعة في عالم الإخراج الفني والصحفي وعلى منواله (مجد) يواصلان مسيرة أبيهما الفنية.

والطريف في هذه العلاقة النوعية أن (مراد) مدير أبيه في إدارة الإخراج الفني في صحيفة (14 أكتوبر) و(مجد) زميله في هذه الإدارة، وكم كان يمتعنا أن نرى ثلاثتهم في صالة الإخراج يتشاورون ويتبادلون المعلومات ويتشاركون في إخراج كاريكاتيراته حين يقوم الأبناء بتلوينها على الطريقة الجرافيكية الحديثة.

أن ترى الأب وابنيه في صالة العمل الإخراجي الواحدة يزيد من قدر الوالد الذي غرس في ولديه ما توارثه بالفطرة أو الوراثة حبَّ الإبداع وشغف ممارسة الفن والنظرة الجمالية التي عالجها في رسوماته الانطباعية والبروفيلات، لتؤتي ثمارها في الولدين وهما يداعبان مفاتيح الحاسوب ويخرجان أفضل الصحف العدنية.

أما (مراد) فشهادتي فيه (مجروحة) كصحفي عاصر أزمنة متنوعة، وربطته سنوات من العمل والإبداع بعالم الصحافة الفني ناهيك عن التحريري لأكثر من أربعة عقود؛ لأنـَّه في عالم الإخراج الفني من الطراز الأرفع في صحافتنا الوطنية.. والمستقبل أمامه؛ لأنْ يتقدَّم الجميع في هذه الحرفة الاختصاصية التي وهبه الله فهو كأبيه محمد سعيد ذو وجهة نظر فنية وتشكيلية بحكم ممارسته ودراسته للفن التشكيلي في ريعان شبابه بمعهد جميل غانم للفنون الجميلة جعلته يتفرد عن أقرانه من المخرجين بالنظرة الجمالية الخاصة والنابعة من صميم الفن التشكيلي الذي درسه ولم يمارسه كأبيه، وإنـَّما سخـّره في عمله بالفن الإخراجي والجرافيكي.. فنم قرير العين يا أبا مراد.

محمد سعيد عبدالله إنسان عادي في هذه الحياة الفانية؛ لكنه بشر، معجون بماء الإنسانية الصافي وصلصال التواضع الجم.

كان إنسانـًا بكل معنى الكلمة، فرحل عنا خفيفـًا كما الريشة في نسمة ريح عابرة على سماء عدن الهادئة.