آخر تحديث :الجمعة-29 مارس 2024-05:58ص

أدب وثقافة


فيليب سوبو ..عدن القطب المغناطيسي

الثلاثاء - 15 مارس 2011 - 12:53 ص بتوقيت عدن

فيليب سوبو ..عدن القطب المغناطيسي
قيل لي - لكني لم أكن لأصدّق قبل مجيئي إلى هنا- إن عدن الواقعة على حافة الصحراء العربية قد غدت أحد أهم مراكز التوزيع في العالم: فالسفن القادمة من أوروبا باتجاه الشرق الأقصى واستراليا وجزر أوقيانيا والهند تتوقف جميعها في عدن لسد حاجتها من الوقود

يعد الأديب والصحافي الفرنسي فيليب سوبو أحد أشهر الشعراء/الرحّالة في القرن العشرين. وقد ساهم، بين سنة 1918 وسنة 1920، وبشكل فعّال، في الحركة الدادية وذلك قبل أن يضع، هو وأندره بريتون ولويس أراجون، اللبنات الأولى للسريالية وينشروا معاً بياناتها الحماسية ويؤسسوا مجلة Lierature.


لكن فيليب سوبو لم يلبث أن ابتعد عن أصدقائه السرياليين الذين اتهموه بعدم الالتزام السياسي والولع بالرواية إذ انه نشر بين سنة 1923 وسنة 1928 خمس روايات. وفي سنة 1926، غادر فيليب سوبو باريس وبدأ سلسلة طويلة من الرحلات عبر العالم أراد أن يكون من خلالها شاهداً على عصره. ففي كتابه 'رحلة إلى الاتحاد السوفييتي' 1930، قدّم وصفاً دقيقاً لمظاهر الحياة الجديدة هناك. وظلّ في الوقت نفسه يهتم بالشعر والشعراء حيث ألّف ديوانين وثلاث دراسات عن لوتريامون ووليام بليك وأندره بريتون. وستظل 'الحقول المغناطيسية'- الديوان الذي مارس فيه سوبو وبريتون الكتابة التلقائية 'criture automatique- معلماً بارزاً في تاريخ الشعر الحديث.


في ما يأتي ترجمة للصفحات التي كتبها سوبو عن عدن إثر زيارته لها سنة 1951.
*
من الطائرة التي كانت تدور في السماء في انتظار الحصول على تصريح الهبوط، لمحت عـدن محاطة ببراكينها الساكنة. كان باستطاعتي أن اتبيّن من فوق حيوية ميناء عدن: أسطول من سفن الحمول الضخمة وقد ارتصت بمحاذاة الأرصفة، مخازن الوقود الكبيرة التي تشبه أكواماً من الفطريات الملتصقة بعضها ببعض، وكذلك الملاّحات الشاسعة التي تلمع في الأفق وقد تناثرت وسطها الطواحين الهوائية، وحركة السيارات الداخلة والخارجة دون انقطاع كأنّها شجيرة لبلاب متسلقة. وعندما انحرفت الطائرة لتبدأ عملية الهبوط استطعت أن ألمح تحتي الرجال كالنمل وهم يتجهون نحو أرصفة الميناء، ومراكب وقوارب آلية لا تختلف عن الأحياء المائية الضخمة وهي تدور حول البواخر الكبيرة التي بدت بمصابيحها ونوافذها المضاءة وكأنها تقيم عرساً.


قيل لي - لكني لم أكن لأصدّق قبل مجيئي إلى هنا- إن عدن الواقعة على حافة الصحراء العربية قد غدت أحد أهم مراكز التوزيع في العالم: فالسفن القادمة من أوروبا باتجاه الشرق الأقصى واستراليا وجزر أوقيانيا والهند تتوقف جميعها في عدن لسد حاجتها من الوقود. ويمكننا بالفعل أن نشاهد في الميناء السفن العملاقة والمراكب الشراعية وناقلات النفط وهي تشق طريقها كالثعالب باتجاه محطات خزن الوقود. لهذا يمكننا التأكيد أنّ عدن تسيطر على حركة التجارة المنتعشة بين البحر الأحمر والمحيط الهندي مثلما يسيطر جبل طارق على حركة الملاحة بين المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسّط.


عند وصول البريطانيين إلى عدن، سنة 1839، كان من الصعب التنبؤ بحجم التطور الكبير الذي أحدثه حفر قناة السويس في اقتصاد العالم. فقبل مائة سنة كان البحر الأحمر خليجاً مغلقاً لا تمر في مياهه إلاّ المراكب الشراعية، وكانت عدن بلدة صغيرة تقطنها خمس مائة نسمة من العرب. وقد سعت الحكومة البريطانية إلى احتلالها لتجعلها دعامة لها في طريق الهند. ومن ذلك الحين، وبالتحديد بعد افتتاح قناة السويس، أصبحت عدن أحد أنشط الموانئ في العالم. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار الصهاريج التاريخية الضخمة التي لا تزال قائمة في عدن يمكننا القول إن هذه المدينة كانت مهمة أيضاً في الماضي.


**
حطّت الطائرة في مدرج شاسع شُيِّد بين الجبال البركانية والبحر وتحيط به المعسكرات التابعة للقوات الجوية الملكية. في تلك اللحظات كان سربٌ من الطائرات العسكرية يتأهب للإقلاع للقيام ببعض التمرينات الليلية.


غادرت المطار بسرعة واتجهت نحو المدينة. ولكني لم أستطع العثور على غرفة في أي فندق. في تلك الليلة لم أتمكن من النوم فوق سرير إلاّ بفضل لطف خمسة من المسافرين الذين قبلوا أن أشاركهم غرفتهم. وكي يفسروا لي هذا النقص الحاد في الغرف أكدوا أن المدينة تكبر وتتسع بسرعة فائقة وأنّ عدداً كبيراً من الخطوط الجوية تمر في عدن، ومن الصعب بناء عدد من الفنادق يكفي لإيواء المسافرين الذين يرتفع عددهم باستمرار.


في صباح اليوم التالي، خرجت لزيارة الحي التجاري [الهلال] في منطقة التواهي حيث يقع الفندق المكتظ بالمسافرين الذي تمكنت أخيراً من الحصول على غرفة فيه. وسط الهلال تقع عيناك على حديقة صغيرة مستديرة، وهي أحد الأماكن الخضراء النادرة في هذه المستعمرة. لقد نمت الأعشاب والأشجار الاستوائية والإنكليزية حول تمثال الملكة فكتوريا. أمّا حول الحديقة فقد ارتصت الدكاكين في شكل قوس يمكن استخدامه سوقاً ومتنزها. وفي الواجهات يبرز كل ما يمكن أن يغري السائح؛ فالتسهيلات الجمركية في عدن تسمح للتجار باستيراد معظم أنواع السلع الموجودة في العالم.


في الشارع: حشود ملونة من البشر تمشي الهوينى: عرب بعمائمهم، هنود بكوافيهم الصوفية السوداء، يهود بطرابيشهم الحمراء، صومال بلون الأبنوس وقد بدوا في مآزرهم المخططة الفاقعة الألوان وعصيهم الطويلة في غاية الأناقة، ويمنيون وقد غطّى وجوههم غبار الفحم، وبعض الإنكليز الذين يشبهون، في سراويلهم الكاكية القصيرة، صبية عمالقة.


فجأة دبّت في تلك الحشود المرقشة حركة هائجة و - بالنسبة إلي- غامضة وقد ذكّرتني تلك الحالة التي تنتاب أبطال الأفلام الحديثة: أرباب الدكاكين والباعة الجوالون والمرشدون وسائقو سيارات الأجرة وكذلك السماسرة المشبوهون أخذوا يتأهبون بحماس كبير لحدث ما وقد علت وجوههم ابتسامات عريضة. وبعد لحظات تبيّن لي مصدر هذا الاستنفار العام: ركاب سفينة ضخمة تابعة لخطوط الشرق الأقصى على وشك النزول لقضاء بضع ساعات في عدن. التجار من مختلف الجنسيات كانوا مستعدين تماماً لإغواء هؤلاء المسافرين الذين انتفخت جيوبهم بالأوراق النقدية.


بعد برهة من الزمن بدأ الفوج الأول من المسافرين يتزاحم في الدكاكين المضاءة بالأنوار الكهربائية في وضح النهار. جميعهم تقريباً كانوا مسلحين بآلات تصوير وقبعات عريضة: رجال بيض يصحبون نساء يلبسن سراويل قصيرة وأطفالاً مشاكسين مدفوعين بإشارات التجار الهائجين وصبيتهم الذين يصرخون بأعلى أصواتهم، أخذوا جميعهم يشترون أشياء غريبة وغير مفيدة وذلك رغبةً في إشباع لذة الشراء فقط. ولمست أن التجار في عدن يدخلون في منازلات أشد وطيساً من تلك المعارك التجارية التي نشاهدها في أسواق الأعياد عندنا، فعجلة المشترين هنا تتناسب وشراهة الباعة.


في أثناء فترة إقامتي في منطقة التواهي، تفرجت عدة مرات على هذا المشهد الذي يتكرر ثلاث مرات على الأقل أسبوعيا. وفي الواقع، بفضل نشاط الميناء يعيش ليس التجار ومساعدوهم فقط، بل جميع الثمانين ألف نسمة التي تقطن عدن اليوم: العرب الذين يأتون من داخل الجزيرة العربية، اليهود الذين يفرون من غضب المسلمين، الهنود الذين يأتون للتجارة، والأفريقيون الذين يغادرون السواحل الصومالية -حيث البطالة- للبحث عن عمل، والبيض الذين يستقرون ردحاً من الزمن وسط هذه الجبال البركانية القاحلة كي يديروا شريان التجارة ويراقبوه من هذه البقعة من العالم.


لقد سرّعت الحرب نمو ميناء عدن. فخلال الحرب الأخيرة تضاعف عدد سكان المدينة تقريباً. ويشكل هذا النمو السريع لعدن، الذي يصعب التحكم فيه، مصدر قلق للإدارة البريطانية، لأنه يضع أمامها كل سنة مصاعب جديدة ومعقدة. وعدد الموظفين الإنكليز هنا ما زال محدوداً ومعظمهم يعيش حول قصر الحاكم الذي شُيّد فوق قمة أحد الجبال المطلة على الميناء الجديد. وهو منزل مريح لكنه متواضع، فالحديقة الصغيرة ذات الأزهار الجميلة التي يعتني بها الحاكم نفسه هي أهم مظاهر الرفاهية في ذلك المسكن. أما الأعداد القليلة من الموظفين المدنيين فتسكن بيوتا قديمة يعود بناؤها إلى بداية الاحتلال، وتطل على المرفأ القديم الذي أصبح الآن مطموراً بالرمل في الحي الذي يسمّى: كريتر. في ذلك الجزء من المدينة، الأقدم والأكثر سكاناً والأشد حرارة، يمكننا العثور على ذكريات الأوروبيين الأوائل الذين استقروا في عدن.


نعم، كنت أعرف ذلك. فقد كنت أتذكر الرسائل التي كتبها آرثر رامبو في عدن حيث كان يقيم بين سنة 1880 وسنة 1891، والتي يشتكي فيها من شدة الحرارة وشح الماء. وكان من الصعب عليَّ أن لا أفكر باستمرار في مؤلف 'الإشراقات' الذي صار رائداً للتجارة في البحر الأحمر. فرامبو، بعد تجربته القاسية في قبرص، قرر أن يصبح رجل أعمال في عدن. ومع ذلك فقليل هم الذين يعرفون هنا من هو آرثر رامبو. بدا لي الأمر وكأنني أبحث عن شبح. فالذين من المفترض أنهم قد عرفوه تظهر عليهم إمارات الدهشة عندما تسألهم عنه. وقال لي بعضهم إن رامبو سكن يوماً في منزل بالقرب من المدرسة اليهودية وان ذلك المنزل قد احترق.


تنزهت في الحي الذي سكنه رامبو والذي لم يتغير على ما يبدو إلا ّ قليلاً: منازل منخفضة تستخدم للسكن وخزن البضائع، شوارع صغيرة تغمرها الشمس، عربات دائمة الحركة، دكاكين الحرفيين وقد امتزجت فيها حيوية التجارة بكآبة الغربة. فحول هذه المباني فاقدة الروح التجارة هي الملكة.


إنني اليوم مقتنع أنّ آرثر رامبو لم يخطئ عندما تنبأ بأنّ عدن ستصبح هذا السوق التجاري العظيم الذي تنهال عليه ثروات الجزيرة العربية وأفريقيا كلها، وان ميناءها سيحظى بهذا المصير الخارق. لقد أرغمت الآلام الفظيعة رامبو على مغادرة البحر الأحمر. ففي سنة 1891 ترك رامبو عدن نهائياً وليس بحوزته أكثر من أربعين ألف فرنك. ألم يكن الشاعر العبقري رجل أعمال عبقرياً أيضاً لكن الموت هو الذي لم يمهله حتى يجني ثمار جهده؟... سنة 1897 وصل إلى عدن شاب فرنسي آخر من مدينة كاركاسون واشتغل في الشركة نفسها التي عمل فيها رامبو: إنّه 'البس'، رجل نشيط وخارق الذكاء وذو شخصية قوية استطاع عند وصوله إلى هنا أن يقدِّر بدقة الإمكانيات الضخمة لميناء عدن وملحقاته. وبفضل ذلك تمكّن في فترة قصيرة أن يكسب نفوذاً وثروة ضخمة جداً إلى درجة أن بعض الناس هنا لا يتردّد في تسميته بـ'ملك البحر الأحمر'. وهو، في الواقع، يتحكّم في جزء كبير من تجارة عدن: النفط والبخور والجلود والآليات والسلاح والصابون والفندقة والسمسرة وكل ما هو حيوي في عدن. وفتح مكاتب ووكالات في مختلف البقاع التي لها علاقة بالنشاط الواسع لهذا الميناء.


استقبلني السيد بس بحرارة. وعلى الرغم من أنه قد تجاوز الثامنة والستين فقد أصرّ على اصطحابي لزيارة رصيفه العائم الذي اشتراه قبل مدة قصيرة وذلك على ظهر قارب آلي قام ببنائه في مصانعه الخاصة، وقاده هو نفسه بيدٍ صلبة. في القارب قال لي 'البس' وهو ينظر إلى عدن: 'لقد شاهدت هذه المدينة وهي تكبر ولن يمهلني أجلي لأرى ذروة مجدها. لكني متأكد أن مستقبلها سيكون عظيماً. لن يكون تنبؤ مواطني الفرنسي كاذباً. فخبرته وحنكته اللتان يعترف بهما الكبير قبل الصغير هنا هما اللتان جعلتاه يفعل ذلك. بعد أن انتهينا من زيارة الرصيف عدنا إلى المنزل الذي أشرف البس على تشييده بنفسه. وقد بدا لي حجم المنزل متواضعاّ مقارنة بضخامة ثروة صاحبه وأعماله التجارية. ..وفي الحقيقة، ليست الكماليات هي التي تهم 'الملك' بل الموسيقى. وقد سألته قبل أن أودّعه عمّا إذا كان قد سمع بعض الأحاديث أو الذكريات عن آرثر رامبو. ردّ قائلاً: 'سمعت الذين وظفوه عندهم يقولون إنه شخص غريب الأطوار وسريع الغضب'. وأدركت مرةً أخرى أن الإلحاح لن يكون مجدياً في هذا الموضوع. لذلك حاولت أن أبحث عن شيءٍ ما يذكرني برامبو في المرفأ القديم المطمور بالرمال. فإلى هناك كان رامبو يذهب ليحلم وينسى.. ما زال بإمكاننا مشاهدة المرفأ وبجانبه مصنع قديم لتقطير مياه البحر. لكن المرفأ والمصنع أصبحا اليوم أنقاضاً ولا يوجد حولهما إلاّ بعض الصيادين العرب يجففون شباكهم وبعض الصبية يتسلون بقذف الحجارة في الماء.


مدُّ البحر يرتفع، ومع أمواجه يصل إلى عدن نازحون من داخل اليمن ومهاجرون من الصومال، وتجار من الهند، ويهود مضطهدون، جميعهم يستقرون في عدن آملين الحصول على عمل. وفي موسم الرياح يرحل بعضهم. لكنهم يعودون جميعاً إلى هذه المدينة. فعدن غدت المرفأ الذي يستريح فيه أبناء السندباد المتعطشون إلى ركوب البحر والأسفار الطويلة بانتظار أن تدفعهم الرياح مرات أخرى في اتجاه غربة البحر. انهم يتركون مؤقتاً ضوضاء البركان (كريتر) ويبتعدون عن اليابسة مثل جدهم السندباد على ظهور مراكب ذات أشرعة بيضاء عالية. في البدء يحاولون أن لا يغيب عن أنظارهم ساحل حضرموت، تلك البلاد الوعرة في أقصى جنوب الجزيرة العربية. في الشرق: ميناء واحد -المكلا- يمكن أن يستقبلهم قبل أن يتوغلوا في مياه المحيط الهندي أو يتوقفوا في جزيرة سقطرة الغامضة.
إن البحّارة العرب الذين لا يكلّهم التعب يصلون اليوم إلى أراضٍ بعيدة ما زال البيض يجهلونها. لكن هؤلاء البحّارة لا يكفّون أبداّ عن التفكير في مرفئهم عدن: القطب المغناطيسي.


ترجمة أ.د. مسعود عمشوش لـ"القدس العربي"